القول الفصل

القول الفصل

الأربعاء، 15 أكتوبر 2014

الكِركِة



-القطعة السادسة-


نحت سومري

(6)
تسيل الكلمات من فم عِراق ببطءٍ ثقيل وهو يحكي لنا قصّته من أمام النافذة الكبيرة. يروي التفاصيل لبقة باردة، بينما نحن نتحسس نارًا تحرق أحشاءه وتغلي بالأحداث التي تحوم في ذاكرته الآن. بدت الحكاية أول ما انطلق بها الشاب، حكاية فاترة غير مؤذية، لكن سرعان ما تذوّقنا منها شيئًا متوغّلين في تعقّدها، حتى صار طعمها شفافًا واضحًا، عاريًا ثقيلًا، فيه نارٌ تسلخ العقل عن الجسد، وتلسع الخيال.

حين يشرب الناس، يُقال فيهم أن العرق يتحدّث بلسانهم. كانت الكلمات تشبه مذاق العرق والقصّة تُشبه القنينة في كلّ شيء. في أنها تبدو شفافةً مسالمةً كالماء، وفي أنها قد تحمل الإنسان إما على الجنون، أو على النوم. ومثلما يخاف الناس من سُكرِ أحدهم فيشربون بسرعةٍ لئلا يتركوا له شيئًا من الكحول، خفنا من قصّة عراق وإلى أين يمكن أن تنتهي. كنّا نعرفه، وكنّا نعرف ما لا يعرفه صائب. وكنّا نريد لهذه القصّة أن تنتهي على الفور. ويخيل لي بأن وحيًا نزل علينا بالتشبيه بين القصّة وقنينة العرق، لأننا كنّا نشرب من القنينة بسرعةٍ وكأننا نريد أن نأتي على ما فيها ونَخلَص، وكأنّ لذلك علاقة بالقصّة. أما صائب فقد كان يبذل جهدًا لئلا تبدو عليه الثمالة أو يغطّ في النوم.

كان عراق على شيءٍ من اللؤم والحنكة ليحكي القصص بطريقة تجعل القناني تمتلئ من جديد. كنّا نشرب بسرعة، لكنّ القنينة الثالثة لم تكن لتفرغ أبدًا، وشعرنا كأنّ هذه القصّة تطول دهرًا. كانت كلماته تملأ القنينة قطرةً بعد قطرة والعبارات تخرج من فمه بطيئة مثلما يقطر العرق من قصبة الكركة. كان صديقنا الشاب يشبه الكركة التي حدّثنا عنها يومًا، حين شرح لنا كيف يصنعون مشروبه المفضّل.

تكون هذه الكركة مكوّنة من وعاءٍ نحاسيّ حسن الإغلاق في أسفلها. يُسكب العنب المعصور المختمر داخل هذا الوعاء ثم تُضرم النار تحته. يكون العنب قد قُطف عن أمّه الدالية، وقد سُحق حتى غادرت ماءه ثم عُزل لأسابيعٍ طويلة في عتمةٍ مُحكمة ليوضع بعد العزلة في الإناء النحاسيّ الملتهب. يبدو لنا الآن أن الأحداث القديمة كانت قد عصرت عِراق عصرًا أليمًا، وقد اختمرت في جوفه المُعتم بعد كل هذه السنوات. كأنّ الأحداث التي يرويها تغلي في قلبه الآن، حتّى تتصاعد بخارًا خفيفًا. مئات الصور الحزينة الحلوى المسحوقة تنتفض غليانًا وتصعد دخانًا عفريتًا إلى عقله مثيرة أفكارًا شرسة. فقد قال عراق يوم شرح عن تقطير العرقِ أن عصير العنب بعد أن يتبخّر، يتصاعد من الوعاء النحاسيّ إلى الأعلى طريق أنبوبٍ  يُسمّى "القُمُع" فيه يتصاعد البخار إلى أن يلامس سطحًا نحاسيًا باردًا، وهو أسفل طاسةٍ نحاسيّة يوضع فيها الماء المثلّج لتبقى باردة، وتكون الطاسة في أعلى الكركة، كأنها تاجها أو رأسها أو عقلها. وما أن يلمس البخار هذا السطح حتى يبرد هو الآخر. يخاف البخار من البرد، يضمّ أشلاءه المتباعدة إليه، يختبئ بصيغةٍ أخرى. يسمون هذه العمليّة تكاثفًا إذ يعود البخار سائلًا يقطر من سطح الطاسة العلويّة الباردة عبر قصبةٍ تُخرجه صافيًا من الكركة إلى الإناء.

كانت الأفكار الشريرة تتصاعد من جوف عِراق إلى عقله عبر "القمع". القمع، من دون ضمّة فوق القاف. كان شيئًا فيه يعيد بلورة الأفكار بحيث يقمع الشرّ فيها، يهذّبه ويطمس شكله. لكنّ المعروف والمؤكّد أن القمع نادرًا ما يغيّر جوهر الأشياء، والأكيد أن أفكار عِراق مهما بدت مسالمة، فهي تحمل حقدًا لا يضاهيه أيها حقد.


كانت الأفكار تصل عقل صديقنا الشاب، يدوّرها برأسه حتّى تبرد، تهدأ، تتكاثف لتصبح كلمات، وتُعاد صياغتها بأنبوب اللغة. فتخرج منه أحداث القصّة باردةً مقطّرة مثل العرق، شفافة مسالمة كالماء لكنّها سرعان ما تدفع الناس إلى الجنون. تخرج الحكاية من صديقنا الكركِة باردة غير مؤذية، لكن ما أن نتذوّق منها شيئًا متوغليّن في تعقّدها، حتى يصير طعمها الشفاف واضحًا عاريًا ثقيلًا، فيه نارٌ تسلخ العقل عن الجسد. وتلسع الخيال. وتفجّر الشرّ الكامن، فيها وفينا.

الاثنين، 13 أكتوبر 2014

كعكة تفّاح



-القطعة الخامسة-


Nature Morte Vivante - Salvador Dali - 1956



(5)
كان عِراق شابًا ملفوفًا بسخريةٍ تخفي كل ما يسري في كنهه. تعليقاته مقتضبةً قليلةً، لكنّها إن انطلقت لا تسكن إلا بعد أن تصيب ألمًا في نفس الآخرين. وكان صائب، صاحب سيليا الذي عرّفتنا إليه حديثًا، صيدًا سهلًا بالنسبة لعِراق. في بداية الأمر احتفظ الشاب بصمته أثناء حضورهما، ثم عندما غيابهما يأخذه سيل من المديح، فيعدد أمورًا إيجابيّة كثيرة عن صائب هذا، ثم يبدأ بالإفراط في مديحه إلى حدٍ نكتشف فيه السخرية الكامنة في كلامه منذ اللحظة الأولى.

في أحد الأيّام الصيفيّة تلك كان عيد ميلاد إيناس السابع والعشرين، واحتفلنا بهذه المناسبة في غرفتي مثل العادة رغم أن سيليا قد اتصلت مرات عديدة تسألنا أن "نغيّر جو" وننزل إلى إحدى حانات البلد التحتى. وكان المزاج معكرًا من أصله قبل حضور سيليا وصاحبها الذي صار اليوم زوجها. وذلك لأننا كنّا في الصباح قد أعطينا أدهم وعِراق مبلغًا من المال لشراء كعكة، لكنهما نزلا إلى الطابق الأوّل عند الستّ آليونا إيفانونفا وطلبا إليها أن تعدّ كعكةً لنا بمناسبةِ أنّي طلبت الزواج من ليلى. طبعًا، لم أكن قد طلبت الزواج ولا أي شيءٍ من هذا القبيل، وكانت القصة مجرّد فبركة منهما ليحصلا على الكعكةِ مجانًا، بينما اشتروا بالمال ثلاث قناني عرق صابات. وبعد أن جاءوا بالكعكة من عند الستّ إيفانوفا، نصبوا عليها شمعةً على شكل الرقم أربعة وثلاثين أتى بها عِراق. ورغم أنها تظاهرت بتقبّل المزحة، إلا أن ملامح الانزعاج قد ظهرت على حركة إيناس حين رأت الرقم فوق كعكة التفّاح الهزيلة، وقد أقسمت بأنها قد أعطت الستّ إيفانوفا قبل أسبوعين كيسًا من التفاح، وأن الكعكة صُنعت من ذلك التفّاح. لاحقًا أخبرتني ليلى بأن إيناس كانت قد أسرّت لها بأنها اعطت كيس التفّاح للجارة العجوز بعد أن حصلت عليه من شابٍ جولانيّ من مجدل شمس، خرجت معه لبضعة أيّام، ثم تركته بعد أن طلب منها في السرير أن تتأوّه وتصرخ باللهجة الشاميّة أثناء الجنس، حنينًا منه إلى أرض الوطن.

بعد أن كنّا قد أجهزنا على قنينة العرق الأولى وصلت سيليا ومعها صاحبها صائب. كنا قبل ذلك نسخر من الموسيقى التي يختارها أدهم. بلوز طبعًا. أنا كنت أسخر منه مدّعيًا بأن أصوات المغنّين تشبه صوت مطحنة القهوة في إليكا. أما عِراق فكانت سخريته تضرب لأكثر من جهة، فطلب منه أن يبدّل الموسيقى بأخرى تُسعد إيناس مثل نشيد كوريا الشماليّة، وسعيد سأله ساخرًا إن كان هذا الصوت الأجشّ الذي نسمعه يغنّي هو صوت توفيق زيّاد. وكانت ليلى تُريد أن تمازحه أيضًا، لكنّنا سمعنا طرقة سيليا الخفيفة على الباب، ثم دخلت هي وصاحبها.

كانت دقيقة من الحديث الرسمي، أهلًا وكيفك، وكانوا قد حملوا هديّة لإيناس، ونظرنا إلى بعضنا بحرجٍ لأن أحدنا لم يتذكّر أن نشتري لها أي هديّة. كانت زجاجة عِطر، وكان بالنسبة إلينا شيئًا مضحكًا أن تُهدى إيناس زجاجة عطر. ثم بعد انقضاء الدقيقة أرادت ليلى أن تستأنف ممازحة أدهم فقالت: "حُط نسمع شيء لوليد توفيق"، فلم يفهم صائب النكتة، إذ أنه لم يكن يعرف ليلى فحسبها تتحدّث بجديّة، وأراد أن يدخل إلى الحوار بأيّ ثمن فردّ بجديّة: "وليد توفيق؟ لعلّ كاظم الساهر أفضل بكثير في هذه الساعة"، ثم تطلّع إلى وجوهنا ينتظر منّا أن نُظهر تأييدنا له. أنا ابتسمت مناكفةً بليلى، ونظرنا الواحد للآخر مجتهدين أن لا ينفلت الضحك من أفواهنا.

عندها، هزّ عِراق رأسه موافقًا وقال: "من دون أدنى شك، من دون أدنى شكّ، يا أخي شغّل لنا زيديني عشقًا زيديني". وضحكنا دون أن يفهم صائب سبب الضحك. أما نحن ففهمنا أن حبيب سيليا قد كُتب عليه الليلة أن يكون فريسة سهلةً لعِراق.


"سأصبّ لك كأسًا بنفسي" قال عِراق، وعبّأ في الكاس ضعف العرق الذي نشربه نحن، وماء قليل ليُغيّر اللون فقط. ثلج؟ أم تشربه مثلما نشربه نحن؟ سأله عِراق. مثلما تشربون قال، من دون الثلج طبعًا. ناوله عراق الشراب ونده رافعًا ذراعه حاملاً الكأس: "بصحّة صائب وسيليا". وكانت ملامح الانزعاج باديةً على حركة إيناس، بينما كنّا ندقّ كؤوسنا المليئة بمكعّبات الثلج.

وبعد أن دارت الليلة، وأفرغنا الزجاجة الثانية وبدأ أدهم يعزف على آلته، وجدت سيليا أن تسأل صاحبها أوان مغادرتهما. لكنّ عِراق ضرب بودٍ على فخذ صائب وبيده الأخرى طوّق كتفه وتحدّث إليه بينما وجهه إلينا مبتسمًا: لا يا رجل، مستحيل. لن تغادر قبل أن أحكي لكم هذه القصّة، صدّقني لن تندم، جميعكم. لا بدنا أن تستمعوا إلى هذه القصّة...


الأحد، 12 أكتوبر 2014

آلة الحُزن المُكعّب




-القطعة الرابعة-


ماريون بوست وولكوت - 1939


(4)

لم نعرف كيف انسحب أدهم من المقبرة. أشارت إيناس نحوه عبر شبّاك السيّارة التي كانت تقلّنا. لندعه وشأنه قال عِراق الذي جلس إلى جانبها. هل أقود السيّارة بدلًا  عنك؟ تابع صاحب الاسم الغريب، رفضت إيناس بالطبع. لم يكن ليتغيّر أي شيءٍ في هذه القصّة لو أننا أخذنا أدهم معنا، كان قد بدأ يترجّل من المقبرة متخذًا شارع الشاطئ شمالًا  وقد شاهدته سيليا يمرّ بمحاذاة "أروما الشطّ"، وهو مقهى يهوديّ كبير يفتح أبوابه على مدار الساعة. لم نفكّر حينها ما الذي كانت تفعله هناك، هي وصاحبها، في ذلك الوقت.

خمس سنوات يطوف أدهم شوارع المدينة وهو يعزف الهرمونيكا، دون أن يردعه عن ذلك أيتها عارض. لا سكّة القطار عند حيّ المحطّة ولا سماجة رجال البلديّة. لم يوقفه أي شيءٍ من تلك الأشياء التي كانت تستوقف الناس في حيفا؛ لا رائحة الشوارما في أوّل شارع اللنبي ولا التحيات الملقاة أمام الباب الهنديّ لمقهى فتّوش. لا دَيانا الخطّافة تستوقفه، ولا فاطمة الشحّادة، ولا ياعكوف يطلب السجائر، ولا صفحة السودوكو وصور العاريات في صحيفة "المدينة".  لم توقفه الألعاب الناريّة في عيد الصليب، ولا التلفزيونات القديمة تسقط من سطوح البيوت ليلة رأس السنة، ولا يهوديّات موريّا، ولا مندوبو منظمة Green Peace على مدخل عمارة الـ "سيتي سنتر". لا أزمة السير أمام مدرسة راهبات الناصرة، ولا سائح أجنبي كبير السنّ وزوجته المنهكة تعبًا في شارع الجبل يسألون عن طريق الوصول إلى حدائق البهائيين. حتّى خليل لم يتمكّن من أن يوقفه، وخليل هذا هو رجل خمسينيّ لا زال يقول (كلّ يوم، منذ عشر سنوات) أنه خرج للتوّ  من السجن ويحتاج مالًا  ليصل إلى الناصرة. لا شيء يوقف الرجل الذي بات معلمًا من معالم المدينة: أدهم الهرمونيكا. لا شيء إلا امرأة واحدة.

خمس سنوات عزف أدهم حزنه على مقتل ليلى ألحانًا فيها شيء من المرح. كانت ألحان دي فورد بايلي، بروني ماكغي، مودي ووترز، وغيرها من أسماء الفنّانين الأمريكيين التي لم نكن نعرفها قط قبل أن يبدأ أدهم تعلّم الآلة. كنّا نسخر ونحوّل الأغاني التي يجعلنا نسمعها إلى مواضع للنكتة والتهكّم، لكنّي كنت أحفظ أسماءها وأسمعها حين أكون وحيدًا. وأكثر من هؤلاء كلهم، يعزف أدهم يوميًا ألحانًا كثيرة لسوني بوي ويليامسون، وهو أمريكيّ أسود من دِلتا نهر المسيسيبّي، وكان يكرر، لساعات طويلة، تلك الأغنية التي عزفها عند شاطئ البحر.

خمس سنوات وصوت الهرمونيكا المكعّب يلاحقنا، يذكّرنا بأن شيئًا بيننا قد تحطّم إلى غير رجعة. كانت نغمات الآلة المختلفة التي تنطلق في اللحظة ذاتها بانسجام ساخرٍ خبيث تتحوّل فيما بينها متعثّرة. كأنّ النغمات تصعد إلى الغرفة دون أن تضيء مصباح غرفة المصعد، فإذ بها تتسلق دون أن ترى الدرجات، فتدوس الهواء تارةً وتكاد تهوي إلى الأمام ظنًا بأن المزيد من الدرجات لا زالت أمامها، وتارةً أخرى تصعد درجتين في آن فتكاد تهوي للوراء.

لم تكن نغمات الآلة مستقيمةً ملساء مثل بيوت الألمانيّة، بل مستقيمة خشنة مثل شارع ياقوت وغيره من الأزقة، المستقيمة الخشنة، الصغيرة المحدودة بين شارع اللنبي، شارع عين دور، شارع مار يوحنّا وشارع الخوري. أزقة قليلة، وصغيرة، بعدد نغمات آلة الحُزن المَرِح على موتِ ليلى.

كانت آلة أدهم تملأ المدينة.  بعد أقل من سنة من مقتل ليلى آضحت الهرمونيكا أشهر من نارٍ تلتهم الكرمل. الكثير من الأطفال عاندوا ذويهم حتى اشتروا لهم واحدة، وجمعيّة المشغل للفنون أصدرت ملصقًا يغلب عليه اللون البرتقاليّ الضارب إلى الصفار، يعرض دروسًا لتعلّم عزف الهرمونيكا، وصارت الآلة صرعةً ورمزًا للمدينة.

وبينما ملأ آدهم المدينة التي لأجلها استشهدت ليلى، كانت غرفتي خالية. خمس سنوات تقريبًا ولم نجتمع فيها كما كنّا نجتمع. خمس سنوات من الغرفة الفارغة لم تقطعها إلا مكالمةٍ هاتفيّة من سعيد تخبرنا بأن شيئًا طارئًا يجب أن نعرفه قبل أن تتغيّر حيفا مرةً واحدة وللأبد، وأن علينا أن نجتمع. أشار سعيد لأن نجتمع في الغرفة، صدّقناه.

حين جمعنا سعيد، بعد نحو خمس سنوات من الحادثة، في هذه الغرفة الحقيرة على رأس البُرج، لم يكن أدهم بيننا. أخبرونا أنه كان في تلك الساعة يشقّ طريقه حتّى وصل كاسر الأمواج خلف الكازينو المهجور في بات غاليم. كان يبحث هناك عن المرأة الوحيدة التي استطاعت خلال السنوات هذه كلها أن تجعله يسكن، أو يحكي، أو يعود إلى رشده بأي شكلٍ من الأشكال...


لكنّ سونيا لم تكن هُناك.



السبت، 11 أكتوبر 2014

هرمونيكا سريعة الانكسار



- القطعة الثالثة -

مارك روثكو (1956)


(3)

كان أدهم يُحب ليلى كذلك، من يعلم، ربّما أكثر مما كنت أحبّها أنا بنفسي.

لا زال الرجل، منذ ذلك اليوم، يهيم على وجهه في جميع أنحاء المدينة بقميصه البرتقاليّ الضارب إلى الصفرة. صار القميص مسودًا بعد كل هذه السنوات التي لم يُغسل خلالها. كلّنا نعرف القصّة، ومن لم يعرفها حكاها له سعيد. كان أدهم يلبس القميص البرتقاليّ الضارب إلى الصفرة صباح ذلك اليوم. قيل أنّه دخل من بوّابة البرج الرئيسيّة ومرّ بآليونا العجوز دون أن يلقي عليها التحيّة متقدّمًا في عتمة المصعد. تسلّق بضعة درجات ثمّ عاد أدراجه وطرح السلام: مرحبا ستّ إيفانوفا. نظرت إليه العجوز وفي عينيها عتب عنيف قد يمكّنها من أن تحمل السكّين الذي تفرم به الملوخيّة، وتطعن أدهم في عينيه في شفتيه في كفّيه في قدميه. لم يفهم أدهم عنفوانها إلا حين سمع صرخة تهزّ البرج، كانت هذه صرختي.

كان أدهم يُحب ليلى كذلك، ربّما أكثر مما كنت أحبّها أنا بنفسي، لكنّي أنا كنت هناك قبل أن يكون هو هناك، فأحبّتني قبل أن تُحبّه. أنا وصلت الغرفة قبل أن يصل إليها أدهم ففهمت الأمر قبله. كانت الصرخة التي نبّهته لأن يصعد إلى الغرفة هي صرختي حين فهمت بأن ما يقوله الأصدقاء صحيحًا؛ أن ليلى غابت إلى الأبد، أنها لا تنظر إليّ، ولا تصغي إليّ، ولا هي ترغب في أن تقبّلني. كان أدهم يتأخّر دائمًا، يتأخر دائمًا، لكنّه كان يلتحق بنا دومًا في نهاية المطاف. لقد قبل عقلي في مرحلةٍ ما أن ليلى غابت، وحسبت أن أدهم سيلتحق بنا إلى ذلك الإدراك وإن كان متأخرًا. لكنّه لم يفعل.

في مقبرة كفار سمير الضخمة، جنوبيّ حيفا وفي قاع وادٍ جاف كان يُسمّى وادي كفر السامر، تقدّمت نحو أدهم. لم يكن من الصعب أن أجده بين الجموع التي أتت بلباسها الأسود لتودّع ليلى، كان لا زال يلبس قميصًا برتقاليًا ضارب إلى الصّفار. اقتربت منه لكنّه ارتدع عن عناقي لسببٍ لا أعرفه. وقفنا أمام بعضنا البعض، ومددت له العلبة المستطيلة المغلّفة بقماشٍ مخملي أحمر. كانت حركته البطيئة في فتح العلبة قد أشارت إليّ بأن أُطلق البكاء المخنوق منذ ثلاثة أيّام تأخّر فيها الدفن.

لمحت شهبًا في عينيّه حين رأى الهرمونيكا داخل العلبة الحمراء. وجدنا ليلى تحملها بيدها اليُسرى في كيسٍ قماشيّ لمحلّ آلات موسيقيّة في نيويورك. بيدها الأخرى كانت تجرّ حقيبة السفر الثقيلة التي عادت بها للتوّ، وحملتها إلى غُرفتي أعلى البُرج حتى أُنهِكَت تعبًا، مما حطّ من قدرتها على أن تقاوم المجرمين الذين انقضّوا عليها حين فتحت باب الغرفة.

هل أزعجني أن لا يكون آخر ما تهديه ليلى موجهًا لي؟ ابدًا. لم أكن أشكّ بحبها لي. وكنت أعرف وجهة نظرها بشأن هذا الفتى. كانت تقول أنه سريع الانكسار، وأن هذه لصفة سُكّرها ثقيل. تعلّم أدهم العزف على آلة الهرمونيكا، لكنّ خاصته كانت قد ضاعت منه. كنّا قد مشينا جميعًا إلى تلّ السمك، ثم دخلنا ليلى وأنا نسبح في الماء المحيط بالتلّ، أما الأصدقاء فقد صعدوا لمشاهدة الحفريّات التي كشفت آثارًا بيزنطيّة أعلى التلّ. بعد قائق، التحق أدهم بنا، وفي الطريق سحب الهرمونيكا من حقيبة دوروثي، وهي متطوّعة في جمعيّة بلدنا، أتت معه دون أن نعرفها من قبل، وظنّ الجميع أنه مُغرمٌ بها. لم يكنّ له أي مشاعر اتجاهها، كنت أعرف أنه مهما تقرّب من الصبايا الأخريات، لم يكن يُحبّ إلا ليلى، ربّما أكثر مما كنت أحبها أنا بنفسي، لكنّي أنا كنت هناك قبل أن يكون أدهم هناك. هذا كلّ ما في الأمر.

يومها، مشى الرجل على الصخور السوداء والبنيّة النازلة في داخل البحر مثل أصابع المارد الشرير. كان المشي فوقها عسيرًا، إذ أنها مدببةً خشنة ومتواصلة، لا تقطعها في بعض الأماكن إلا جحور ماء تسبح بها السرطانات، أو صخور ملساء رطبة أصعب للمشيّ من تلك الخشنة، بحيث أن الخطو فوقها مستحيل من دون أن تنزلق، وإن انزلقت وقعت حتمًا على صخرةٍ مدببةٍ. حاول الشاب أن يجتاز هذه الصخور ويصل إلى الأبعد داخل البحر من بينها، أقرب الصخور إلينا، ثمّ بدأ يعزف الهرمونيكا. عزف لحنًا سريعًا طريفًا لسوني بوي ويليامسون، أغنية يقول فيها: "You think i'm jokin' but you better belive what i say".

كان صوت الهرمونيكا المكعّب كأنه يرسم مشهدًا من لُعبة "ماين كرافت" الشهيرة. كان ماء البحر يسحبني بعيدًا عن ليلى مثلمًا يبتعد زوج عن زوجته، دون أن يشعر بأنه إدمانه على البلايستيشن بدأ يزيد عن حدّه.

فجأةً، انزلق الفتى عن الصخرة الملساء، ضرب رأسه بصخرةٍ مدببة خلفه، ووقعت الهرمونيكا إلى الماء، وبينما هرعنا نحن نسعفه، كان البحر قد أخذ الآلة إلى حيث لا  ندري. سحبناه إلى الشاطئ بصعوبةٍ بالغة ونحن ننزلق نقع ونتكسّر بين الصخور. وعندما وصلنا، راح الطفل يبكي. وما عرفت إن كان يبكي على الهرمونيكا أو أنّه يبكي من شدّة الألم. لكنّ ليلى تقول أنه سريع الانكسار، وأن هذه لصفة سُكّرها ثقيل.

في المقبرة، عندما فتح أدهم علبة الهرمونيكا الجديدة التي أحضرتها معها ليلى من نيويورك، عبّأت الدموع فمي المفغور صائحًا مخنوقًا. لم أبك طيلة أيامٍ ثلاثة. وقفت أمامه أحتاجه، بحقّ القبور، أن يأخذني إلى حضنه ويضمّني. كنت مكسورًا، أما هو فقد كان ينظر إلى الآلة الجديدة بدهشةٍ وهو يُبعد العلبة ويقرّبها من بؤبؤيه. لم أحظ بعناقٍ منه، فانكسرت على نفسي، إلى الأرض، وقرفصت أبكي ليلى، دافنًا رأسي بين فخذتي، وهو ينتزع الآلة ويرفعها عن العلبة المستطيلة التي كان داخلها مفروشًا بقماشٍ أبيض ناعم، يُشبه مجسمًا مصغّرًا لتابوتٍ. كان أدهم يحمل الهرمونيكا بيده كأنما يلمس مولودًا جديدًا تقمّص روح حبيبته.

انفلت التابوت الصغير من يده. كنت أبكي عند قدميه حين شعرت بالعلبة تضرب مؤخرة جمجمتي بخفّة فتنغلق وتسقط أرضًا. غلاف مخمليّ أحمر من الخارج، بينما فُرِشَ داخله بقماشٍ أبيض لونه من لون جدران الغرفة الأربعة.


الجمعة، 10 أكتوبر 2014

حذاء أسود عند المغيب





ويليام نيكلسون (1920)


القطعة الثانية 

هل كنتَ على درايةٍ بأن ذلك قد يحدث؟
تسأل إيناس حازمةً وتنتظر جوابًا دون أن تظهر عليها أيّ نيةٍ للتنازل عن تساؤلها. أوصدتْ باب الغرفة بقوّة، كررت السؤال، ثم سدّت النافذة بعنفٍ يعزلنا عن صراخ الأصدقاء الذي هرعوا يمزّقون شارع مسّادة الساكن.


جاوب. هل كنت تعرف أن شيئًا من هذا القبيل يمكنه أن يحدث؟
كانت تحوم بتوتّر في الغرفة العالية، خطواتها الخشنة تسخّن الأرض. الجوّ حرّ وهي تسدّ كل ثقبٍ يمكن أن يتسرّب منه الهواء بينما تفتّش عن شيء ما. "أين الزّفت" قالت إيناس وتابعت تقضّ الغرفة المستطيلة وجدرانها البيضاء. جدار الغرفة الذي يجابه الشمال كان عبارة عن نافذةٍ عريضة كبيرة تنكشف منها أحياء المدينة ومن بعدها البحر، ومن بعده عكّا صغيرةً هزيلة.

على الحائط الأيسر الذي يدير ظهره للغرب، كنتُ قد علّقت صورة عن لوحةٍ لرسّام نمساويّ يظهر فيها ابنه الذي لم يولد، زوجته وهو نفسه. لا شيء غير هذه الصورة. أما الحائط الأيمن فيلمسه سرير صغير، وفوق السرير بارتفاع الوسادة، نقطة توصيل للكهرباء تمكنني من أن أنام على دبيب إلكترونات تنتظر جسمًا معدنيًا لتنقضّ عليه. في أعلى الجدار مكيّف هوائيّ أبيض يتدلّى منه في الهواء سلك معدني مغلّف بالبلاستيك الأبيض. على هذا السلك المتأرجح كنت قد علّقت وردة صفراء سرقتها من ليلى قبل أعوامٍ طويلة، لم تكن وردة حقيقيّة بل مصنوعة من الصوف الأصفر الدافئ.

-        الدنيا حرّ إيناس.
-        جاوب، هل كنت تعرف؟ ردّت.

أما الجدار الرابع للغرفة فقد كان فيه الباب الرئيسيّ الذي خرج منه الأصدقاء للتو بشيءٍ من الهلع يلحقون بسعيد. إلى جانب مدخل الغرفة كان المدخل للمرحاض، والمدخل للمطبخ الصغير، والمدخل إلى علم الجمال من تأليف فيلهلم فريدريخ هيغيل، ترجمه جورج طرابيشي.


أنا لم أكن أعرف. حسبت أن البحر يتسلّى بالمدينة بشيءٍ من الفظاظة لا أكثر. هل كنت أعرف أن ذلك سيغيّر حيفا للأبد؟ لم أكن أعرف. حسبت أن النهر يعود دائمًا إلى مصبّه. هل كنت أعرف أن البحار تتآمر؟ لم أكن أعرف. حسبت أن عكّا ليست أكثر من متحفٍ عاجزٍ. هل كنت أعرف أنها تضمر لنا كل هذا الحقد؟ لم أكن أعرف. حسبت أن الصحراء بعيدة. هل كنت أعرف أن جبالًا ورمالًا وتلالًا تختبئ تحت كل بحرٍ، وفيها قد يرمح الخيول يومًا من الأيّام؟ لم أكن أعرف. حسبت أن حيفا محصّنة من كل هذا. حسبت أننا أطيب وأبسط من أن نضحي فريسةً وأن في عيوننا ما يكفي من الضعف ليشفق المجرمون علينا. نحن...

"هل تريد أن تقول لي مرةً أخرى أن هوايتنا الوحيدة في المدينة هي أن نقطّر الخراب ونعبّئه في قوارير صغيرة من زجاجٍ ملوّنٍ للذكرى؟ هل تريدني أن أصدق أن أهل هذه المدينة يكتفون باستخراج أصوات النساء من ضجيج الشوارع وزراعة الحدائق للأطفال الذين دوّنت أسماءهم في سجلّات المفقودين حول العالم؟" قالت إيناس باستخفاف وقد وجدت أخيرًا حذاءها الأسود. كان حذاءً عسكريًا.

"لم أكن أعرف. وأنا حتّى الآن لا أعرف ما الذي سيحدث. افتحي الشبّاك. أنا عم بختنق والدنيا حمّ." صحت بها، فتوقّفت وحدّقت بي. كنت أرى وجهي هزيلًا صغيرًا في بؤبؤها. ثم تنهدت عميقًا وانكمشت جفونها لتنقطع صورتي وتغيب من أمامي. أنا أيضًا أغمضت عينيّ لأهرب من غيابي. ثم هجمت إيناس عليّ. عضّت خدّي بشراسةٍ حتى شعرت بأنه يتمزّق، ودفعتني إلى الجدار الرابع فاصطدمت جمجمتي بباب المرحاض. وقعت أرضًا وابتعدت هي إلى زاوية الغرفة تنتعل حذاءها العسكريّ الأسود. أنا زحفت أرضًا حتّى وصلت السرير. اقتربت منّي وتسلّقت السرير وجسمي بهدوء. "هلّا زالت بزّتي العسكريّة تثير فيك شهوةً جامحةً لممارسة الجنس معي؟" قالت وقبّلت فمي.


أردت أن أسأل: "وأنت؟ هل كنتِ تعرفين بأن ذلك سيحصل؟" لكنّ رجلها بالحذاء العسكريّ كانت تهرس عضوي الجنسي. كنت أتألّم، وهي تفتح أزرار قميصها البنّي لينكشف جسدها أسمر ناعمًا فيه شيء من لون الشمسِ عند المغيب.



الخميس، 9 أكتوبر 2014

أعجوبة حيفا النائمة


هنري موني 1873


القطعة الأولى

يقول سعيد أن أعجوبة تسكن البحر في حيفا؛ أن البحر في المدينة يختفي ليلًا، يغيب بمعجزةٍ لا تفسير لها. كأنها قصة من نسج الخيال، عن شمسٍ تذوب في الماء وماء يتبخّر في الشمس. لكنّ ما يأتي به سعيد لا صلة له بالمخيّلة، إنما هو واقعٌ محضٌ من تلك الوقائع التي يستطيع هذا الرجل (وبمعجزةٍ لا تفسير لها) أن يطرحها علينا بهدوءٍ يطرد الريب من قلب من يصغي إليه.

كان صوته في ذلك اليوم يزيح عنّا حرارة الظهيرة وهو يحكي القصّة. يقف عند نافذة غرفتنا الكائنة في رأس البُرج، وعبر النافذة يتطلّع إلى البحر: الزُرقة الناعمة تحمل سفنًا مهولة، ترفعها دون أن تهتز بشرة الماء المحيط بالمدينة من كل ناحية. وكانت أشعة الشمس تضرب ثم تنعكس نحو السماء كخيوط رقيقة غير تمتد إلى أن تصل الغيوم، وتطوّق خاصرة السُحُب المُحلّقة فوق رؤوسنا. غيوم الصيف هذه تلقي علينا الظلال الصيفيّة تمامًا كأنها النادل الذي قدّم لنا كؤوس الشراب في حفل الاستقبال المُمل قُبيل زفاف سيليا العزيزة.


نظرنا جميعًا إلى الماء البعيد ونحن نتابع بشغف ما يقصّه علينا سعيد من ملابسات اختفاء البحر. كان المشهد شبيهًا إلى حدٍ خانقٍ بذلك اليوم الداكن من العام 2010 . حينها، كنت أنظر في عينيّ ليلى، أراها تقف أمامي، تُصغي إليّ، تنظر إليّ، ترغب في أن تقبّلني. كان الأصدقاء كلّهم في ذلك اليوم يشدّون على كتفيّ، ويرددون بتلعثم أن ليلى قد غابت إلى الأبد.


يقول سعيد بحزم أن الشمس في نهاية النهار لا ترغب بأي شيء غير أن تخلع أشعّتها المغبرة وتستحم. تغطّس نفسها في البحر، أمام هذا الشاطئ بالذات، وتنظر برومانسيّة مفرطة إلى امرأة تمشي على الشاطئ بصدريّة زرقاء. وعندما تغطس الشمس في المتوسّط، يعلو الماء حتى يفيض ويتسرّب إلى الشاطئ. يتلوّى داخل الرمل. وتتحوّل كل مسامةٍ بين حبتيّ رمل إلى مضيقٍ صغيرٍ تشغله نصف قطرة ماء. كل حبة ملحٍ في الرمل تحتفي بتدفّق ملح البحر، مثل فتاة تستقبل جيشًا يعود إلى المدينة من حربٍ ضروس، وتفتّش بين وجوه الحرب المتشابهة عن حبيبٍ قديمٍ لن تجده، فتكتفي بقبلةٍ من أول ذكرٍ تتلقّفه، قبلة يخلّدها التاريخ تحت عنوان "يوم الانتصار على اليابان".


قبل أن يحل الليل كاملةً يكون الماء قد تفرّغ من البحر إلى الساحل. يبدأ بالرمل ثم يتموّج في الأرض حتى يصل الصخور. يحتل شقوقها، يجد الثغرات وينسل إليها ناعمًا حتّى تلين. تتصالح الجرذان داكنة اللون مع سيل الماء الهادئ، وتتركه يغمرها في طريقه صعودًا نحو كنيسة القدّيس غريغوريوس عند الشاطئ الأزرق، في الطريق إلى تلّ السمك. في المتنزّه، تحت سكّة الحديد، تحت الأرصفة، يدخل الماء في كلّ أنبوب مكيّف هوائيّ ويتسلّق إلى كلّ بيت، وكلّ معملٍ ومكتب. وفي تجاعيد مليون درجٍ ودرج، يتأرجح الماء متمسكًا بتعرّجات الحجر القديم، يملأ النواحي المأهولة من جبل الكرمل، ويسقي في المدينة الوديعة كل شجرةٍ خضراء واقفة. وحين يكون الليل قد تمكّن من حيفا، يُصبح ماء البحر أكثر جرأةً على الاقتراب علنًا من أهل المدينة. يتسرّب الماء إلى النيام، إلى الأحلام، يطرّي الهواء فيخفّ شخير الرجال، ويدعو دموع الزوجات الوحيدة لتمتزج فيه، لا يترك الخبز يجفر، ويساعد قطرات الندى فوق السيّارات بحلّ وظائفها المنزليّة. هذه هي الأعجوبة التي تسكن حيفا النائمة.


أما حيفا التي لم يجهز النوم عليها
، يقول سعيد متنهدًا، فقد كان لها قصّة أخرى. قصّة لم يكن البحر فيها بتلك الخفّة والدماثة.

السبت، 31 مايو 2014

سُكّر

أزرق وزهري. بريجيت ريلي. 2003.









هناك سماء ما أغمّس بها الخبز، أقسّم منها الغيم وأمضغه. ملمس الرغيف أزرق، ولا أحد غيري يعرف هذه السماء. والآن أسأل: هل يستطيع الخبز يومًا أن يسجن فُرنًا؟ الشمس المكوّرة تُشبه القنفذ، قنفذ يبحث عن صديق.

كلما اقتربت الشمس من الصيف، صارت وحيدةً. كلما اقتربت الشمس من الصيف، صارت تشعر بأنها أبعد عن الأصدقاء. كلما اقتربت الشمس من الصيف صارت ثقلاً على ظهر السماء، صارت عارًا ينبذه حيوانات العار. كلما اقتربت الشمس من الصيف تعلّمت أن لا بدّ من الابتعاد، لكيّ تنقذ العار من رائحة العرق. كلما اقتربت الشمس من الصيف، عرفت أنها لا بد أن تتركه وتمضي للشتاء. 

في الشتاء، نُسخّن الخبز على مدفأة كهربائيّة. هذه الشمس التعيسة، صارت قضبانًا مجدولة في جهاز. الشمس حيوان حزين- هذا درس الليل الذكريّ: هذا الليل الذي يحتوي كل شيء، ينهض ويُمسك بقصصنا، بأفكارنا، بأوجاعنا، بالأسئلة وكوارث الأجوبة، يُمسكها ويضعها تحت مؤخرته، فتختفي. 

هل يستطيع الليل أن يجلس على ظهر قنفذ؟ حسنًا، هل نأكل معًا؟ ملمس الرغيف أزرق، وهو رغيف لا يسجن الفرن في داخله كما تسجن السماء الشمس داخلها؛ أشرقي يا معزولتي الحلوة!

هل تسمعون هذا الكلام؟ كلام البحر عن ما يزعجه كلّما رمى الصيّاد طعمًا، كلما شاغب طفلٌ وهرب بخبزٍة من رحلة مشاوي عائليّة، ورمى بالخبزة في الماء ليُغضب أمه التي لم تسمح له بشراء غزل البنات. غزل البنات هذا مثل غيم صغير. كلما أردت أن أشتري غزل البنات، لم تسمح أمّي: "سُكّر!". لم أقسّم الغيم ولم أمضغه ولم آكله، لم أغمّس السماء، وأصلًا... لم أذق يومًا طعم رغيف الخبز.

الخميس، 20 فبراير 2014

كتابة سيّئة



إن الكآبة وحدها يا رفيق مجد، لا تصنع أدبًا جيدًا. والكتابة التي تولد لتنتقم، لا تزيد على دون كيشوت إلا عقدةً نفسيّة واحدة؛ أنه الآن، أنّك، اصبح يتخيّل نفسه بنفسه، أنه طاحونة هواء، وها هو، ها أنت، تعارك نفسك.

إن الحزن، واستجداء الرّحمة، لا ينفع مع الناس. إنهم ليسوا أغبياء ولا أنت غبيّ. وإن تعاطفوا، فيتعاطفون معك لا مع ما تكتبه. إن الوجع لا يكفي والمشاعر لا تكتفي لنحت الكلمات كما يجب، بل تحتاج إلى الموضوعيّة والتقييم والتمحيص في النص، وذلك ما يثبّته، لا انهياراتك الجوفاء. لقد صرت أجوف يا صديقي، والهوس وحده ما يحرك أصابعك فوق مفاتيح الحاسوب. لا العقل، ولا المحبّة، ولا الرغبات.

هذا الثقل الذي تشعر به في صدرك، لا يستبدل لا بالقطن ولا بالنُحاس، ولا يبني لك مستقبلاً، ولا يُحقق حلمك، هذا الثقل الذي تشعر به في صدرك يستطيع فقط أن يُذكرك أنك لم تكن تملك أيّ حلم، أنك لم تكن تنظر إلى أيّ مستقبل.

لكنك يا صديقي، لم تكن تنظر لا إلى الأمام، ولا إلى الماضي. آه، ولا إلى الحاضر. لم تنظر إلى الناس أيضًا، يبدو أنك لم تنظر إلى الناس. ولكن هل نظرت إلى نفسك؟ كُن هادئًا. لا أحد يعرف الإجابة. 

---

لم تكن ريم صغيرة، فلماذا أردتها أن تكون كذلك؟ كانت في سنٍ يُقرر فيه الناس إلى أي غدٍ سيقفزون مثلما يقفز البطريق في لعبة Air Penguin. كانت في سنٍ يرى فيه الحروب. وأنت؟ أنت أردت أن تراها طفلةً. أردت أن تحميها من الأوغاد اللذين لم يولدوا إلا في خيالك. وحتّى في ذلك: عجزت.

إن المحاولات هي النغمة التي تُذكرك بلحن العجز. لحن العجز أبديّ، وها أنت مرّة أخرى تستمع إلى أبو عرب، إلى أغنية غريبة تقول: "الله أكبر نادي حيّ على الجهاد، امشي طريقك على ربك لعتماد"، أغنية منتهى البساطة. لكنها لا تنتهي، لكنها مستمرة. تبقى مستمرة وتبقى أنت عاجزًا مرةً أخرى أن تكتب نصًا تقول به ما تُريد. لماذا تحاول مرةً أخرى؟ لماذا تحاول؟ لا تغيّر الأغنية: "الله أكبر يوم مَ أنوَر زأر، صلاح شاكر لغم بارود انفجر"

دقّات القلب السريعة هذه لا شأن فيها لا للهفة ولا لخيبة. دقّات القلب السريعة لأنك تجلس في مكانٍ بارد جدًا، ولأنك لم تشرب الماء منذ الصباح ولأنك صعدت الدرج مسرعًا ولأن أشياء كثيرة أخرى، جسديّة كلها، تقبض عليك الآن، على قلبك، الآن. 

ما الذي تعرفه عنك ريم؟ ولا أيّ شيء. ما الذي تعرفه أنت عنها؟ ولا أيّ شيء. ما الذي تعرفه أنت عن نفسك؟ ولا أيّ شيء. ما الذي تعرفه ريم عن نفسها؟ تعرف ما تريد، وتعرف أعداءها واضحين، وتعرف جيّدًا أين هي وكيف وصلت إلى هذا المستشفى. وهذا فقط ما يحتاج الإنسان أن يعرفه. 

لكنّ المشترك بينك وبينها أنكما لا تثقان بمن يقول لكم أن الأصدقاء والأقارب، لا زالوا على قيد الحياة.

---

كلّما قسّمت النص الذي تكتبه لأجزاءٍ أصغر، صارت الكتابة هشّة وتعيسة. هيرقليطس ظلّ هرقليطس، وأفلاطون كبر وصار اتحادًا أوروبيًا. كلّما قلّت الأحزمة العضويّة التي تمسك كلّ الكلام بكلِّ الكلام، وزادت الأحزمة البلاستيكيّة (باندات) هي ما يُمسك بكتابتك، صرت عاريًا تفتقد اللحم وتفتقد الجلد وتفتقد الوعي وتفتقد قلبك. تفتقد قلبك يا أخي. تفقد قلبك يا صديقي. تفقّد قلبك يا ولد.

كلّما بكيت أكثر، تذكّر: ليس الحزن ما يدفع الناس إلى المستقبل، ولا الحزن ما يبقى للناس في المستقبل. كربلاء ليس موضوعها الحُزن، كربلاء موضوعها رغبة الثأر.

تبدو غريبًا يا أخي. هل تعرف تبدو لي غير جدّي في أيّ شيء، ولا يمكن الإتكال عليك، وتبدو كأنّك تعيش برأسك. لكنك لا تبدو رثًا ولا بائسًا ولا تعيسًا. أنت تبدو كما أنت، عادي، مثل كلّ الناس في الحانة. تبدو غريبًا.

---

ليس في غرفتك مسطرة تقيس بها طول عضوك. ليس في غرفتك جُحر تقيس فيها عمق معرفتك. ليس في غرفتك مرآة طويلة تنظر فيها وترى المدينة. ليس في غرفتك مدينة، ولا فيك مدينة. أنت فقط غرفتك، لا شيء خارجها. وهل تعلم؟ لا شيء داخلها أيضًا. أنت. فقط. هي. 

طول عضوك يا صديقي ليس يُقاس بالمسطرة بل بالسّكين. دع طرف السكّين الحاد يلمس بطنك، وانظر إلى أين يصل رأس القضيب. وقس المسافة على السّكين. الآن اسمع منّي هذه الحيلة (تعلّمتها أيّام المدرسة): يُمكنك أن تشد السكّين وتغرسها عميقًا في بطنك، كلما غرست أعمق سيكون رأس قضيبك قد اجتاز مسافة أكبر من على السّكين. أكثر وأكثر. حتّى تقتلك رجولتك - الأورجازما أكثر الكائنات غرورًا في الحياة. 

---

دقّات القلب السريعة لأنّك لم تشرب الماء منذ الصباح. لأنّك جاف. ولأنّك في مكان بارد جدًا. لأن البرد جمّد عقلك. ولهذه الأسباب، ولأشياء كثيرة أخرى. صعدت الدرج مسرعًا، لتكتب هذه التدوينة.

هذا نصّ آخر انتهى، ولم تقل فيه شيئًا مما تريد أن تقوله. 

إن قرارك بالانتقام من ذاتك بدل الانتقام من الآخرين، كان قراراً رائعًا. ويمكننا أن نتنازل عن الكتابة الجيّدة، لطالما ستبقى هنا تقاتل نفسك وتتلوّى بآلام قاتلة تعذّبك أمامنا. نحن، أنت تعرف، نحب أن نتفرّج. ولهذا السبب وحده، سنسمح لك بالبقاء. 


* ملاحظة: قبل البدء بكتابة هذه التدوين شغّلت هذه الأغنية بحيث تتكرر. وقد تكررت أثناء الكتابة هذه الأغنية 63 مرّة. حاولوا، المحاولة تذكّر بالعجز. للاستماع للأغنية.


تدوينة يموت شخص ما في آخرها




(1)
في أحد الأيّام، شعر الإنسان أن لا شيء يسعفه؛ لا الصمت، ولا الكلام. وهكذا اخترعوا الشيفرة. 

(2)
بيرة، بيرة. رجاءً. فقط بيرة.

(3)
الـ"أوف" التي غنّاها أبو عرب، هي الشيء الوحيد الذي لم تقطعه النكبة. 

(4) 
أقوم من السرير وأتقدم نحو باب البيت. أُمسك بسكّرة الباب، أشد قبضتي حولها، ثم أشدها للأسفل. عندما تشدّها للأسفل، تحرّك السّكرة، هناك كسرة، طقّة أولى ثم تتحرك السكّرة بسلاسة. هذه الطقّة الأولى، مثل معانقتك. تنساب طويلاً، وفي نهايتها تكتشف إن الباب مقفلاً. 

(5)
إنهم ينظّمون حفلة. وقد تمّت دعوة الكثيرين، وقد أتوا واحتشدوا حتّى سدّوا الباب ولم تعد إمكانيّة لفتحه. 

(6)
لا يا حبيبتي، إيدغار آلان بو لم يكتب "الأميرة النائمة"، لا، لا هو ولا تشارلز ديكينز.

(7)
أنا والكوالا، نأكل الوجبة ذاتها.

(8)
إن المكوى البارد أكثر قسوةً، بكثير، من المكوى الحار. جرّب كليهما، على خدّك، مثلما تجرّب قبلةً طويلة على الخدّ. مثل واحدةٌ من قُبل الخدّ الطويلة التي وتُبدد الحدود بين الصداقة والعشق. إن المكوى البارد أخطر بكثير مما تعتقد.

(9)
الشفاه شيء ظاهرٌ للعيان، ولا يُعدّ بأيّ شكلٍ من الأشكال، جزءًا من تفاصيل الجسد. 

(10)
أهرع مثل مجنون إلى المطبخ. وأقبّل الثلاجة قبلةً حارّة.

(11)
تذكير: كل شيء تمام.

(12)
دُرت صباح الأربعاء على كلّ مقاهي المدينة.
لم أجدًا أثرًا لظلّي. مات ويليام، أكلته الولائم.

(13)
يقول هادي العلوي أن الرحمة لا تدل بالضرورة على الشفافيّة البشريّة.

(14)
أعود الآن إلى السرير. أنكح الحائط. أنكحه ثم أضرب رأسي به حتى يسيل الدم. 
دم الحائط. 

(15)
في غرفةٍ معتمة، سنقف واحدنا أمام الآخر، وترقص خطواتنا بسلاسة رقيقة مع النغمات:
"طالعلك يا عدوي طالع من كل بيت وحارة وشارع حربنا حرب الشوارع طالعلك يا عدوي حربنا حرب الشوارع طالعلك يا عدوي."

ثم غنّت هي، وشوشت في أذني: "وبقنابلنا اليدويّة، وبقنابلنا اليدويّة أعلنا الحرب الشعبيّة"


(16)
يمشي الآن في غرفتي صرصور متثاقل. 
أهرسه بالمكوى البارد. 


(17)
إن كل القنابل اليدويّة في العالم لا يمكنها أن تقلّم أظفر طفل. إن القنابل اليدويّة، كلّها، لا يمكن أن تغسل رائحة السمك عن يديك. 

(18)
(18)
(18)
(18)
(18)
(18)
(18)

الثلاثاء، 11 فبراير 2014

تأثير الدواء


الحقيقة هي الحُزن الذي يبحثُ عن مرآة.
الحقيقة كائنٌ يعرف الكثير من الأماكن يختبئ بها.
الحقيقة كائنٌ يعرف حيفا بشكلٍ ممتاز.
الحقيقة شيء لا عاطفة له، لا دموع له، لا نبرة صوت.
الحقيقة لا تتوسل أحدًا أن يصدّقها.

الحقيقة هي مرآة.
الحقيقة هي الحُزن الذي يبحث عن مرآة.
الحقيقة هي حُزن الباحثين عن حقيقة.

ولكن لا يوجد شيء اسمه حقيقة. هناك كذبة واحدة كبيرة. كذبة كبيرة لم تترك مكانًا لأي شيء غيرها. وأنا، أصلاً، سعيد. أنا سعيدٌ جدًا.



ملحوظة: إن أسوأ صورة عالقة في رأسي من طفولتي، هي أني كنت أقف مثل الأهبل في طرف القاعة. كانت معلمة الروضة قد رتبت الكراسي وجهّزتها للعبة الكراسي، أو الكراسي الموسيقيّة، أو الكراسي المتحرّكة، وبدأنا ندور حولها. وكنت منسجمًا بشدة مع الأغنية التي كانت المعلم تشغّلها، وعندما أوقفتها جلس الجميع وبقيت أركض دون أن أنتبه، وكنت أو خاسرٍ في اللعبة. فوقفت جانبًا، وبدأ الشوط الثاني، وبدأ الجميع يدور، وقد أبقت المعلمة الموسيقى طويلاً طويلاً، وأنا أنظر إليهم وهم يدورون ويضحكون.

أشعر الآن، أن هذه المعلمة لم توقف الموسيقى أبدًا، أنها انتقمت مني لأني كنت ولدًا غبيًا وخسرت أولاً، وأنها لا زالت، منذ 18 عامًا، تشغّل الأغنيات، من طيري طيري يا عصفورة، وحتّى أغنية البرجوازيين لجاك بريل. 

-

سؤال في الطريق إلى الحقيقة: على من تقع مسؤولية التهاب المسالك الهوائيّة للإنسان؟ 

-

أنا أكره الأطباء. هذا الدواء جعلني أشعر أسوأ بكثير مما كنت عليه. هل من اقتراحات؟

الأحد، 9 فبراير 2014

شباط أعطى، شباط أخذ





كلّ شيء يحدث في شباط، حين تنقلب المواسم. هذه حقيقةٌ علميّة ليس لي أن أخوض بها. هناك، ممن ينقلبون في المواسم، من هم أجدر مني بتدقيق المعطيات العلميّة. كلّ شيء في شباط وهذا هو الأمر الطبيعي، هكذا هي الأشياء في الدنيا. فلم العناد على أن يتغيّر شيء ما في هذا العام؟

يبدو شهر شباط الآن بالنسبة لي مثل سيّدٍ راشدٍ في شعره شيء من الشيب، يدخل إلى غرفة مراهقٍ ويقنعه في أن الحياة كذلك، ولا يمكن أن تكون إلا كذلك، وأن علينا أن نستمر، لأن المستقبل أمامنا، وأن هذه سنّة الحياة، وسنّة الطبيعة، وشباط جزء لا يتجزّأ من الطبيعة. إن أسوأ القتلة هم من يقتلون ثم يطلبون من ابن القتيل أن يتوقّف عن الحزن ويدع السنة تواصل تسلسلها.

السنة تركيبة واحدة عجيبة. تبدأ في شباط باضطراب، ثم تُزهر حاملة كل جمال الكون الملوّن، ثم تصبح  الشمس صاخبة وتنفتح الأجساد ويأخذ البحر الناس إليه، تطير الليالي بسهرات حول طاولات مفتوحةً على السماء، وأغاني مفتوحة على السماء، ومزاجات مفتوحة على السماء، وفرحٌ صاخبٌ يوميّ يسحب النجوم كلّها إلى شارعنا الصغير. ذلك حتّى يُنهك الليل، تقل كثافته، أي تتسع مساحته وتندر فيه النشوات، ويمتد إلى جيب النهار. الشمس تغيب الآن عند السادسة، عند الخامسة، عند الرابعة، شيء ما بدأ يتهاوى، غصنٌ بدأت مفاصله تأنّ مثل مفاصل باب القبو في الكنيسة القبطيّة في القدس. برق. رعد. عاصفة. فيضان. وخلص. أهلاً يا شباط، أهلاً بك من جديد، هات السنة الجديدة، هات.

إن مرور السنوات هذا ليس لعبةً، ولا هو شأن يُحتفى به، إنه جريمة تموت فيها أشياء كثيرة، تُقتل فيها أشياء كثيرة. ذلك طبعًا غير أنه تأكل وتأكل وتأكل منك إلى أن تُنهكك، لكنها اللعبة يا فتى وكان عليك أن تلعبها.

هل رأيت؟ ألم أقل لك؟
حاولت أن تهرب منها، حاولت أن تحاربها فما الذي حلّ بك؟ ما حلّ في كلّ من تمرّد على الطبيعة: احتباس حراريّ. صارت يا صديق سنواتك كلها خريف واحد مستمر، يوم ربيعي، شهرين شتاء، أسبوع صيف قاتلٍ، أربعين خريف.

وأنت تصارع نفسك وتغرق في ذوبان الأقطاب، يا صديقي الكوكب، هناك كواكب أخرى لم تنجرّ إلى جنونك، وهي الآن تبدّل، من حُبٍّ إلى حُبٍّ، تعود إلى مسارها، أنت تعرف، طبعًا، أن النجوم والأقمار والكواكب لها مساراتٍ ثابتة، فإلى أي تحاول الهرب؟ إنك يا صديقي لا تستطيع أن تكسر المسار، والحصيلة أن تدمّر نفسك وأنت تحاول الهرب. اسأل من يعرفون بشؤون العلم والمعطيات الدقيقة، سيرشدونك إلى المسار الصحيح، إنهم يعرفون الطريق جيدًا، وقد سبقوك إليها. إننا في شباط، هل نسيت؟

السبت، 8 فبراير 2014

لعبة



أشعر أن العالم اليوم كبير جدًا، أنه واسع جدًا
أشعر أن العالم اليوم فيه من الكلام الممتع والمثير ما يمتص بحور العالم كلّها.

أشعر أن هناك الكثير من النكت، الكثير من علاقات الحب، الكثير من الأشخاص الذي يحبّون كلابهم، هناك الكثير من المارخوانا بحوزة الجميع، هناك عشرات الناس الذين يلتقون أصدقاء قدامى، وهناك مئات الصداقات الجديدة. العالم اليوم، واسعٌ جدًا، حتّى أن النباتيين اليوم ودودين جدًا ويسألون آكلي اللحوم أي البهارات أفضل للكباب.

الناس اليوم، يتعلّمون مواضيع غريبة عجيبة، الآن أمامي واحدة تتعلم اللغة الصينيّة، وآخر يبحث علوم الأعصاب، وواحد يتعلّم هندسة الخشب وواحد، والله العظيم، يكتب بحثًا بيلوجيّ عن إمكانيّة أن يعطس الإنسان أثناء الأورجازما! وآخر مُسنّ ترك برلين وأتى هنا يُعلم الرقص، وهناك طالبة أرجنتينيّة تتحدث إلى حبيبها عبر سكايب وتضحك وتضحك. 

أشعر أن العالم اليوم فيه الكثير من الشمس، أبيض كل شيء، والقليل من الغيوم، أشعر أن أحدًا لم يكن يحتاج في هذا الصباح ليتناول الفيتامينات التي يتناولها يوميًا أشعر. أن هذا العالم يتّسع لطالبة تصميم أزياء من جتّ المثلث.

أشعر أن الناس اليوم، يريدون تجربة أشياء جديدة، هناك مُسنّة روسيّة تستفسر من النادل عن مُربّى الزنجبيل، الآن الآن، كلّي ثقة أن مئات الآلاف في هذا العالم يحمّلون أفلام جميلة ليشاهدونها الليلة، هؤلاء غير مئات الآلاف الذي سيخرجون لقضاء سهرةٍ هادئة أو صاخبة. أعرف أن مئات الآلاف الآن يحمّلون أفلام للارس فون درير وإينغمار بيرغمان ويوسف شاهين، ولا ضير أيضًا إن شاهدوا ترانتينو.

 أنا متأكد من أن صباح هذا اليوم، السبت، أتى إلى العالم بأطفال جُدد، أشعر أن هذا العالم، واسع جدًا حتّى أنه يتّسع لكل هذا الفرح بولادة الأطفال، إنه واسع جدًا. وأنا متأكد من أن هذا شروق اليوم جلب معه إلى العالم عشرات النّساء اللواتي فقدن عذريّتهن على حدود الفجر، أهلاً أهلاً، والعالم، واسع جدًا ليحتوي كل اضطراباتهن، وليحتوي كلّ حريّتهن الجديدة، العالم واسع جدًا ليحتوي، ليحتوي
كل 
هذا

الحُبّ



العالم اليوم واسع إلى حدٍ لا تستوعبه حتّى الشمس. يا الله الشمس ما أجملها. وفي العالم قطارات وسيّارات وبواخر وسفن فضائيّة وملايين الكوابل التي تنقل الكهرباء والمعلومات وصور الطالبة الارجنتينيّة لحبيبها، وفيه أيضًا دراجات هوائيّة، يا الله ما أخف الدراجات الهوائيّة، والفساتين فوق الدراجات الهوائيّة، والقهقهة عاليًا، وكل كل شيء. أنظر، جرّب، عن جد عزيزي القارئ قُل بصوتٍ عالٍ: ها ها ها ها ها ها ها ها ها ها ها ها ها ها ها.. خمسة عشر مرّة، جرّب، جرّبي بصوت عال وأنظري حولك إلى هذا العالم اليوم.

العالم اليوم، واسعٌ جدًا، جدًا جدًا جدًا جدًا جدًا جدًا، خمسة عشر جدًا.. مليون جدًا. 

العالم اليوم مفتوح، ربيعيّ جميل، العالم مُشمس اليوم، وفيه من الفرح ما يفيض حدوده، حدوده الطويلة المحيطة به، وهو واسع، جدًا جدًا جدًا.

إلا...
إلا، إلا أنه لا يتّسع لحشرة سوداء.

لحشرة سوداء صغيرة تشعر الآن أن
لغتها
بخيلة
حشرة تشعر أن لغتها الآن شتويّة مغلقة. تشعر أن لغتها أصغر من ذرّة الملح. حشرة تشعر أنها خرساء، أن كل شغلها في الحياة أن تنتظر حذاء يطحنها. هل يتّسع العالم لصرصار يختنق بقيء نفسه.

العالم اليوم، على كلّ اتساعه، ينكمش وينكمش حتى يصير كتلة صغيرة كثيفة عالقة في حلق صرصارٍ أسود لا يستطيع الطيران. الصرصار يفنى، وتبقى الغصّة في الحلق والقلب، تبقى الغصّة، عالمٌ بأسره، واسع وفيه متسع لكل شيء، كل شيء إلا أنت.

إن هذا العالم الكبير الكبير يجلس الآن مثل الصخرة على صدري، يخنق، ويثقل الأنفاس، هذا العالم الواسع ليس فيه مساحة لصرصارٍ صغير، لكن العالم الكبير الكبير، لم يكتف بطرد الصرصار بل أصر، على أن يطحنه تحت بُسطار. هذه إذن، مشكلة الصرصار، أن اختار أن يواصل محاولات التنفّس.

ألف مرّة قلت لك، يا رب حين تنتهي من اللعب في هذه اللعبة، أعد القطع إلى علبتها، لئلا تختلط يا رب ألعابك في بعضها البعض. أرجوك يا رب، أرجوك يا الله، إن أبشع ميتة يمكن أن يموتها طفل عمره سنتين، هي أن يختنق بقطعة ليجو.
*

- شكرًا لك يا الله
- لا شكر على واجب يا إبني

*

أمامي الآن، يا الله، طفل عمره سنتين، ممدد وفي حلقه قطعة من لعبة. ألعابك متعبة يا رجل، خلص، بكفّي، وحياة ربّك، يا الله.


الاثنين، 3 فبراير 2014

أغنية التابوت





لا غرابة في أن التوابيت تُصنع من الخشب، مثل البيوت الأوروبيّة.
فتكون باردةً في الصيف ودافئة في الشتاء.
(أي أنّها تكذب على الميّت...)

التوابيت أماكن ودودة فعلاً. 



الأربعاء، 22 يناير 2014

أصوات الملح في غرفة مظلمة







الدنيا برد. ومش عنجد بعرف وينتى بصير الوقت إنك تغيّر وجه المخدّة. في إشي بهاي الأيّام بكون يشبه القزاز، ناعم وبارد ومالس وبلمع، ومكسور، مكسور وبجرح. والأسوأ من انه يجرح، هو انه يفوت بالإيد، بالإجر، بالخصر.

مرّات بتتخيّل انه البيرة بتنشربش بقنينة قزاز، أنه القزاز بنكسر شقف صغيرة صغيرة صغيرة، وبختلط بالبيرة، وبتشربها مع القزاز المكسّر. يمكن هذا السبب الأساسي انك كل م تشرب أكثر بصير الي بصير.

مرّات بتخيّل علي سلّام لابس بلوزة السنافر وقاعد ع الكمبيوتر بوكل أبوروبّو وبلعب GTA Vice City... وبسمع أغنية "الدنيا أوضة": "لما تعيش تحلم أحلامك مش قادر توصلّها فكر في الي يخليك قادر توصل طولها وعرضها، فكر انك لسك عايش وبتتنفس بالهوا، مهما هتكبر هيا حياتك وبايدك هتحلّها."

في شغلات ما حدا بقدر يفهمها، في أنواع حزن وأنواع خوف، بتنحكاش.
في أنواع حزن وخوف ممكن تظهر وانت عم تضحك وتحكي وتتهبّل وتغنّي.
في شغلات أخت شرموطة بتصير مرّات، وبتخليك مرعوب، من ولا اشي.
في شغلات أخت شرموطة بتصيرش، ويتخليك مرعوب من أنه هذا الولا اشي يكمّل.
مرّات بتسأل حالك إذا عنجد في حاجة تبدّل وجه لمخدّة.

أكثر اشي بخوّف بعد م تسمع أصوات عالية، صوت خبط وضرب، هو الصمت الي بيجي بعدها رأسًا. مبارح حلمت انه فيل الخشب الي محطوط ع رف عالي عندي بالغرفة وقع، ولما وقع مخبطش بالأرض، مطلعش صوت، اختفى. لما فقت، أو كأني فقت، بعرفش، واتطلعت
ع الأرض ملقيتهاش، كأنه التخت كمان، عم بنزل فيّ، بوقع وبوقع. مرّات بسأل حالي إذا بشي يوم من الأيّام راح أنجح أنام وشرشف التخت يضلّ بمحله.

في اشي واحد، هو الولاد الصغار، بقدر يخلّي الملح يختفي من أي بحر في العالم. ويختفي، مش يعني يطلع، يختفي يعني يفوت، يذوب، يذوب أكثر أكثر من م ممكن العقل يستوعب. الأشياء، ومنها الملح، لما بذوب بالميّ بتفقد شكلها. الولاد الصغار بقدروا يخلوا الملح يذوب بالبحر لحد م يفقد شكله وريحته والأهم انه يفقد طعمته. ببقى الصوت، ببقى صوت الملح، بصوت الولاد الصغير وهو عم بركّب أوّل جُمَل بحياته، في اشي بصوته بخليك تهتز، وجهك ينكمش، تنهز. هذا صوت الملح.

معلش. تحمّلوني. الليلة بس. وعد.

الخميس، 16 يناير 2014

العالم الآخر

كاسبار














هناك رجل ما في هذا العالم، يستيقظ كل يوم قبلنا جميعًا، ويكوي خطّ الأفق.
هناك امرأة ما في هذ العالم، تحرق البخّور كل صباح، في فمِ زوجتك.
هناك مُقامر ما في هذا العالم، يلفّ روليتّا الكواكب بإدمان مواظب، ويخسر المجرّة.
هناك قنفذ ما في هذا العالم، يجلس في مكانٍ سريّ، يُمشطُ شعرَ حنظلة.
هناك بوّاب ما في هذا العالم، يرتّب فهرس الكتب المقدسة، حزينًا.
هناك سكّير ما في هذا العالم، يبصق الرسائل في قناني النبيذ الفارغة، ويبعثها في البحر.

*
في عالمٍ آخر، تفكّ لوليتّا أزرار البحر، وينزل الليل يغطيهما فننام. 
في عالمٍ آخر، زوجتك تخونك مع باتريك زوسكيند.

في عالمٍ آخر، سيحمل دون كيشوت خصلةً من حنظلة، ويمضي يقاتل.
في عالمٍ آخر، سأضحك كلما أنشد أبونا: "مباركٌ أنت يا ربّ علّمني حقوقك"
في عالمٍ آخر، سأقرأ وصيّة رجلٍ مجهولٍ فأحملها على كتفي، وأقبلها، حتى النهاية. 

*
هل تعرفين ما الذي ينقص العالم الآخر؟ القليل من الحظ، القليل من الشمس الناريّة، القليل من الرغبة الشرسة. روليتّا الكواكب، بإدمان مواظب، سقطت من عالمٍ فيه الفواصل مرتبّة باستقامة. 

*
إنه عالم لا خسارة فيه.
وفي هذا العالم، كان يمكننا بناء بيتٍ صغير وعائلة.

الثلاثاء، 14 يناير 2014

وعدٌ في الأفق

مشهد من "سالو" لبازوليني















ذاب حينًا. أقبل يغمر يابسةً.‏
حينًا تجمّدَ واختفى في قطبهِ.‏

كلما أقتربَ، قطفتُ له حبّات منع الحملِ.‏
وكلما أزهرتُ فيه، انقطع جذعه.‏
‏ ‏
كلما آل الحصاد إلى الزفاف
قالَ الرحيلَ، كأنه يلفظ كلمة: آب.‏
‏ ‏
الوعد الذي يتلوه في نطق الوداع
‏(وعد أن يبقى)‏
صادق مثل الرغيف  ‏
يغمّسه، في فرجي الآن، ويأكله. ‏
‏ ‏
أمدَ كفّي إليه
كيفما مدّ خبّاز يديه
للنار التي لا تخلف وعدًا بالحريق،
ولا تُضبط في قفصٍ.‏
‏ ‏
أمدّ كفّي إليه، أجده
مستقيمًا، مثل خطّ الأفق،
وهميًا.‏