القول الفصل

القول الفصل

الأربعاء، 4 مارس 2015

جوع الأبيض


صادفت اليوم هذه الصورة التي التقطتها عايدة قعدان في العام 2013. نعرف أن هذه الصورة لطفلة خرجت من سوريا، وعليه فإن كل ما أريد أن أحكيه عن الصورة، رغم أنه ليس مباشرًا بأي شكل من الأشكال، يقع في سياق التفكير الواعي وغير الواعي بالحالة السوريّة.

جوليا - عايدة قعدان (2013)



اللون الأبيض في هذه الصورة نادر بقسوته. محشوّ بالموت والفقدان. لون أبيض يتضمّن فراغًا حادًا، يحمل الفراغ ويستخدمه ليسطو على الصورة فينتشر عليه ويرسّم حدودها. تُصرّ الصورة على أن الفراغ موضوعها، فلا يعود الأبيض لونًا في الصورة، إنما تصبح الصورة أسيرة لونها، تنتهي حيث ينتهي هو.  وهذا الأبيض ينطق باسم موتٍ جامعٍ للألوان، يراكم تناقضاتها التي رفضت الاستسلم لبعضها البعض. ليس لونًا، إنما حصيلة أطيافٍ تطرّفت إلى حدودٍ مطلقة إلى أنه اختفت كلها إليه – إلى هذا الموت الذي ليس فيه شيء من الموت الذي نعرفه – ذاك الأسود العبثيّ المستسلم. إن الأسود عادةً، هو لون الموت قابعًا في القبور، بينما الأبيض هنا هو لون الموت المُطلّ علينا من السماء، الموت الذي يحتوي على معرفة الآخرة. والموت في هذه الصورة يُلقي من السماء بكلّ جسده على الغرفة، بكلّ جثّته الثقيلة والعارية. هذا موت آخر: موت متربّص مترصّد يحمل قصدًا. هو فراغ عدوانيّ، وقح، نافر، يستطيع في هذه الصورة أن يغتنم كل المساحة ليُعلن هزيمة الألوان في سوريا – الأبيض الذي يجمع جثث الطيف، يكدّسها، يجلس فوقها، ويضحك.


إن الغياب في هذه الصورة ليس مسالمًا بأي شكلٍ من الأشكال. فهو لا يتوانى في استدراج المشاهد إليه، ينهشنا ويبتلعنا يمتصّ لونا فيحوّلنا جزءًا منه. إنه غياب مخادع، مناور، يلعب في صعوده وهبوطه لعبة: يُنتج فروقات وهميّة تقنعنا بأن هذا الأبيض الذي أمامنا ليس نفسه، لكنه يخلق بينه وبين نفسه فوارق تتنافس على النيل منّا، فيدبّ فينا رغبة أن نختار بين خياراتٍ هي في الواقع نفسها.


يكشف الفراغ الأبيض في هذه الصورة عن بناءٍ وظيفيّ لبيتٍ من دون وظيفة. تنازل سكّانه عن حاجاتهم حين تنازلوا عن أملهم بالحصول عليها. غرفة من دون معنى، خالية اتجاه قاطنيها الممتلئين الذين يحبسون في داخلهم الكثير، ويحبسون إراداتهم بالأساس. ليس في هذه الغرفة أي أغراضٍ أو تفاصيل توفّر الدفء الذي يشعر به الإنسان حين يكون سيدًا على بيته الصغير، بأغراضه وتفاصيله التي ُلدت لتلبي حاجة السيّد. إن الإنسان الظاهر في هذه الصورة يحبس في  نفسه كلّ ما يحاكي العاطفيّة الدافئة أو حتّى الغضب الحار، إذا لا يمتلك مسندًا أو موضعًا لصبّهذه العواطف كلّها في هذا البيت الغائب.


يمارس الأبيض في هذه الصورة خدعتين وكذبة فظّة واحدة.  فهو أولًا يسحبنا إلى وهم الاختلاف بين مدخلين لغرفٍ أخرى. الأوّل بابه ظاهر فيه عن طريق إطاره الأسود، مدخل يطلّ منه ضوء نظاميّ مستقيم وباهت ومحدود. بينما المدخل الثاني يشعّ منه ضوء مشاكس، يتعدّى على الإطار الأسود  في داخل الغرفة الثانية، ويتطفّل على الجدار، وهو يطلق بياضًا باتجاه القادم إليه بعكس المدخل الأوّل الذي يقطع امتداده رواق البيت عرضًا. على أن الفرق بين غرفةٍ بابها مؤطّر بالأسود وأخرى ينتفض فيها الضوء، رغم التلميح بسوادٍ ما داخلها، ليس فرقًا مثبتًا، لا شيء يشهد علميًا بأن الغرفة الثانية أكثر نورًا من الأولى، ولكن الأبيض يمارس خديعته، كما قلنا، إذ أنه كما قلت سابقًا، يلعب لُعبة انتاج الفروقات الوهميّة، ولعبة الموت المتنافس مع ذاته على جائزة النيل منّا. أما الخدعة الثانية التي تمارسها الصورة فهي لتزيد قانعتنا بأنّ الغرفة الثانية هي تلك المرغوبة، فنرى الطفلة تعبر المدخل الأول، تتجاوزه، دون أن تلتفت إليه، وتخطو نحو الآخر. لكن الكذبة الفظة تكمن في انقطاع الصورة عند حدود المدخل الثالث، ذلك الذي تنظر إليه البنت. إنه المدخل الذي لا يستطيع الأبيض تحديده، المدخل الذي لم تمت الألوان فيه ولا زالت تصارع على مكانها، المدخل الذي لم تنتصر عليه الكثافة فلم تلغِه. اختفى الباب الثالث من سوريا إذ أبى أن يدخل في دائرة النفي ودائرة الموت المطلق.  إن الأبيض – وهو سيّد الصورة كما قلنا- عزل الباب الثالث من الصورة تمامًا لأن سيّد الغرفة لم يتمكّن حتّى الآن من إحراز انتصاره عليه ليدخله في صورتنا هذه – ليبتلعه.


يحوّل الأبيض هذه المساحة إلى مساحةٍ عملاقة شاسعة، وكلما كبرت يكبر معها الإنسان الذي يشغل حيّزًا منها. أما الطفلة فتكبر الآن وتصبح بالغةً: هذه اللحظة العمريّة التي يصبح المشيّ فيها اعتياديًا فترتفع القدم اليسرى عن الأرض بثقة، هي اللحظة التي تتنازل فيها الطفلة عن علاقتها بالغرفة، وتحدد علاقة جسدها بأرض الغرفة البيضاء. قبل هذه اللحظة، كان الربط بين الطفلة ومكانها حتميًا، إنما في اللحظة التي يتمكّن فيها الطفل من الوقوف على قدميه والسير بحريّة، فهو ينفصل بالضرورة عن محيطه. وأنت لو أمعنت النظر بالصورة من هذه اللحظة الزمنيّة، سينزل عن ظهرك همًا ثقيلًا: همّ أن ننظر إلى هذا المكان باعتباره بيتًا للطفلة. نحن نرى منذ اللحظة الأولى هذه الصورة صورةً داخل بيتٍ، لأن ما فينا من رحمةٍ إنسانيّة رفض أن يموضع هذه الطفلة الصغيرة في أي مكانٍ آخر غير بيتها – المكان الطبيعي الذي يجب أن تكون فيه الطفلة. وهي ليست هناك بالحقيقة، هي لاجئة. فلو تخلّصنا من قلقنا عليها، وسمحنا لأنفسنا بأن نعتبر هذا المكان شيئًا آخر غير البيت لاستطعنا أن نرى بوضوح أن هذا الكائن الحيّ داخل الصورة لم يعد طفلًا. لكنه حصل على قدرٍ جديّ من البلوغ في مشيته واستقلاليّته وفي الشعر الذي يمكن أن نراه شعر طفلةٍ لكنّه كذلك شعر امرأةٍ رصينة واثقة على حافّة الأربعين، كمان أن شكل ما تلبسه قد يكون فعلًا رداء طفلةٍ صغيرة، لكنه قد يكون رداء سيّدة بالغة في لحظةٍ حميميّة ما من حياتها. وسأقول بحذر أن مشيتها في الرواق الفارغ بهذا الشكل، تذكّر بمشاهد سينمائيّة كثيرة مألوفة تخرج فيها بائعة هوى من إحدى الغرف وتمشي في رواق الماخور الفارغ.


لقد فعل الأبيض فعلته إذن، لقد أوقع بنّا مرةً أخرى وابتلع الطفلة، ذوّبها فيه لتفقد ملامح شخصيّتها أمامنا ونتحرر من التعامل معها كما هي عليه. لقد اختلط الأمر. ومثلما اختلطت الألوان بتطرّف وابتلعها الأبيض، اختلطت عليّ شخصيّات الكائن الحيّ الظاهر في هذه الصورة. وليست هذه اللهفة وهذا الشوق للغوص في بحر إمكانيّات هذه الإنسان، إلا وسيلة الأبيض ليجعلنا نلحق بها، نحن المختبئون وراء شيءٍ مايظهر في زاوية الصورة التحتى.



يبتلع الأبيض كلّ الألوان حين تتبعثر وتختلط وتتجادل وتتطرّف. ومثلما تبتلع سطوته الألوان، ينفّذ الأبيض خدعه ليختلط فينا الأمر حول هذه "الطفلة"، تتبعثر أفكارنا، خيالاتنا، رؤيتنا، نتوه فيها رغم وضوحها. يبتلعها العالم الأبيض – عالم اللجوء هذا- ويقتل شخصيّتها التي كانت قبل قليل غايةً في الوضوح. تذكروا، قبل سطورٍ قليلة فقط، كنّا متأكدين من أنها طفلةً طيبة تخطو خطواتها الأولى في رواق بيتها. ثم يجعلنا نتبع هذه الغائبة بفضولٍ ونهم، نمشي إليها، خلفها، إلى أن يستدرجنا الأبيض الجائع، الموت اللئيم، إلى داخل سيادته المرئيّة  في عمق الصورة ويبتلعنا.