القول الفصل

القول الفصل

الجمعة، 4 نوفمبر 2016

غزل

















- هل تعرفين شكل كوكب زُحَل؟

- نعم، كرة ملوّنة وحولها حزام كالاسطوانة

- صحيح، وهل تعرفين طول مُحيط رأسك؟

- لا، ما طول مُحيط رأسي؟ 

- لنرى. هذا خيط، هات نلفّه حول رأسك...

- يلّا 

- مثل التاج

- يلّا

- كيف تقيس الخيط الآن؟

- عندي متِر، لحظة..

(يقوم من السرير، ويعود بعد 9.58 ثوانٍ)

- يلّا

- خمسون سانتيمترًا

- خمسون سانتيمترًا

- الآن، هل تعرفين شكل كوكب زُحل؟

- نعم، كرة ملوّنة وحولها حزام كالاسطوانة

- صحيح، وهل تعرفين محيط رأسك؟

- خمسون سانتيمترًا

- الآن، تخيّلي رأسك أكبر مما هو عليه، تخيّليه كبيرًا كبيرًا كبيرًا كبيرًا.

- حسنًا

- أكبر مما هو عليه بسبع مئة وسبعة وخمسين مليون وثلاث مئة وخمسين ألف مرّة! 

- حسنًا

- الآن، تخيّلي أن حزامًا يحيط برأسك مثل كوكب زُحل.

-حسنًا، تخيّلت

- حول رأسك الكبير جدًا جدًا.

- حسنًا

- الآن تخيّلي أن هذا الحزام الذي يُحيط بجبينك، هو مضمار الركض في الألعاب الأولمبيّة، وأن يوسين بولت يركض حول رأسك، ويكسر أرقامًا قياسيّة، واحدًا تلو الآخر، مرةً تلو الأخرى. هل تتخيّلين؟

- نعم، أتخيّل...

- سيكون هذا منظرًا جميلًا، ولكن هل تعرفين ما هو أجمل؟

- ماذا؟

- حقيقة أن يوسين بولت الذي يركض حول رأسك، في كل مرةٍ يكسر فيها رقمًا قياسيًا، فهو بالحقيقة يكسر كل الأرقام القياسيّة التي كانت قبله منذ فجر التاريخ. أعني أنّه حين يتجاوز ما قبله، يكون قد تجاوز ما قبل قبله، وما قبل قبل قبله. يعني، في كلّ مرّة يحقق فيها بولت الذي حول رأسك رقمًا قياسيًّا جديدًا، يكون قد شجّ التاريخ بضربةٍ في رأسه وصلت تشققاتها أخمص ما في الزمان. 

- أوكي؟

- وتخيّلي وأن بولت هذا، حين يحطّم كل الأرقام القياسيّة التي صنعها الآخرون، لا يبقى له إلا أن يتجاوز نفسه، مرةً تلو الأخرى، تلو الأخرى، تلو الأخرى. حينها، وكل هذا يدور حول رأسك، ستصير الأرقام القياسيّة عبثيّة، لا نهاية لها، ويحدث دائمًا أن صاحبها نفسه سيعود ويكسرها دون توقّف، إلى الأبد...

- ما معنى ذلك؟

- معنى ذلك أنّ ركض يوسين بولت سيصير مثل الكون؛ التاريخ الذي نعرفه ذرة في صحرائه، وهو يتّسع ويتّسع بعبثيّة لا يمكن تخيّلها، مثلما لا نستطيع مثلًا أن نتخيّل حجم كوكب زحل الحقيقيّ أبدًا، حتّى وإن قلتِ لي "حسنًا، أتخيّل". كونٌ عظيم، فيه غير النظام الشمسيّ مليون نظام شمسيّ، وثقوب سوداء مهولة مرعبة، وما لا يُحصى من النجوم. وتخيّلي أن هذا كله، هذا كله كله، يدور حول رأسك. 

(يلمس شعرها)

- هل تتخيّلين؟ 

- أتخيّل، نعم.

- سيكون هذا منظرًا جميلًا. 

السبت، 10 سبتمبر 2016

البحر والشجرة


تُحبّ الأشجار حيفا: تشعر أنّها تريد أن تظلّ فيها، أنها تختبئ أحيانًا لئلا تخرج منها، وأن شيئًا لا يضمن لها أن تبقى إلى الأبد - بالنهاية، هذه ليست غابات الأمازون، هذه مدينة. الأشجار هنا غير مطمئنّة، وهو ما يدفعها لتبدو أقرب إلى هيئة الإنسان؛ أنّها خائفة. 

*
تطفو عكّا،
 بالنسبة لنا، فوق سطح البحر؛ مثلها مثل أي سفينةٍ تجاريّة تضيء هناك. إن عكّا بالنسبة لنا ليست أكثر من باخرةٍ تقف منذ أربعة آلاف سنة، يعتقد الناس فيها أن يوم القيامة سيأتي حين تبزغ حيفا من الشمال. 

*
إن العالم الذي أحاول أن أبنيه، يُشبه البحر في الليل إلى حدٍّ بعيد؛ أسود، ناعمًا، ويبدو من بعيدٍ مثل الفراغ. تتمرّى على وجهه أضواء السفنِ والمدنِ، فتبدو لنفسها مرتجفةً، خائفةً، مشتّتةً، فاقدةً للحدّةِ. وأحاول، ابتداءً هذا العالم، ان أجيب على واحد من الأسئلة التي تشغلني: "ما الذي فكّر فيه الله عندما قرّر أن يخلقني على جبلٍ أمامه بحر؟" وسؤال آخر: "كم من الوقت يُمكن لمشط شعر جدّتي الخشبيّ أن يطفو على وجه الماء؟ وهل يُمكن لموجةٍ أو عاصفةٍ أن تُحطّم سنًا واحدًا منه فقط، مثلما تفعل خصلة واحدة عنيدة من شعرها؟" 

*
تبدو جدّتي بالنسبة لي الآن، مثل شجرةٍ تضرب جذورها في قاع البحر، وتنبتُ فيه إلى أن تتعدّى سطحه، ويشبّ جذعها صلبًا وسط زرقةٍ أبديّة، وسط المُحيط المترامي عند الظهيرة؛ وحيدةً فارعةً، يانعةً، مزهرةً، خضراء ومظلِّلَة.


الثلاثاء، 14 يونيو 2016

السبب




اقناع - وولتر سيكرت - 1908




















هل أستطيع أن أكتب هنا كل ما أريد أن أكتبه؟


الإجابة: لا


لماذا؟


لأنّي لن أجد في كلّ هذا العالم بيتًا، أو شخصًا، أو بئرًا، أو لغةً،
أو بحرًا، أو هاردِسكًا، أو حاويةً، أو كوكبًا، أو كابوسًا، أو حَلقًا،
يتّسع لذرة من الحقد الذي أتوسّده.


لماذا؟


لأن الأطفال اللذين يدفعهم الشغف ليكرروا
سؤالهم الأبديّ: لماذا؟ كلّهم يكبرون ثم يموتون. 


لماذا؟


لأنهم لن يتمكنوا أبدًا من كتابة كل ما أرادوا كتابته.


وأنت؟ ستموت أيضًا؟


لا


لماذا؟ 


لست أملك وداعة الموتى، ولا قدرتهم على التسامح
لا الهدوء، ولا ثقل الجسد، ولا التكفّن عاريًا، ولا أثق
لا بأكتاف الأصدقاء، ولا الأقرباء، ولا الرفاق، ولا سيّارة

دفن الموتى التي كلّما أتت محمّلة بجثةٍ من مستشفى
نهريّا إلى عرّابة البطّوف، انقطعت من البنزين عند
مفرق البروة.


وأنا؟ سأموت أيضًا؟


أنت؟ نعم


لماذا؟


لأني سأحرص على قتلك. 


حسنًا، ولكن ألا يمكنني الآن، إن كنت ستقتلني
على أيّ حال، ألا يمكنني أن أكتب ما أشاء؟



الإجابة: لا

الاثنين، 1 فبراير 2016

المُسدّس

قصيدة لـحيزي لاسكلي
من العبريّة: مجد كيّال


مُسدّس / آندي ورهول / 1981

















في الخزانة مسدّسٌ.
في الخزانة عدّة أشياء أخرى.

*

شخص صغير جدًا
يستطيع أن يمتطي المسدّس
كما الحصان،
حصان أسود.

*

لو أن وحشًا بسبع رؤوس
وقف عند البوّابة،
كنت سأطلق النار عليه دون ترددٍ،
ولكنّ البوابة المفتوحة
تخيفني.

*

يُبرّئ القاضي المسدّسَ دائمًا.
قاضٍ ساذج.

*

كان له وجه لا يُمكن نسيانه
ومسدّس أبيض.

*

مسدّس غير مجازيّ.

*

عمّي أنا      يمتلك مسدّسين
عمّي أنا      يمتلك قبوًا في "جفعاتايم"
عمّي أنا      "حاييم".

*

مسدّسي
يُحب الناس.

*

تُغني الرصاصة أغنيتها الصغيرة
في الهواء، أغنية بلا فذلكة.

*

خطوط عريضة لمسدّسٍ متخيّل.

*

الأغنية عن المسدّس
هي
أغنية من دون كلمات.

*

هذه المرّة يوجّه المسدّس ضدّنا،
ضدّ لحمنا الحار.
ضدّ أوردتنا النابضة.
ضد إيماننا السخيف بما يسمّى الحياة.
نحن نقول: إن هذا المسدّس عبثيّّ.
ونحن متأكدون من أننا في قولنا هذه الجملة،
المركّبة من أربع كلمات،
قد أبطلنا التهديد.

*

إنّي أوزّع أقلامًا (رخيصة)، مسدّسات
ومناشف.
وهي كلها مُفيدة.

*

تنفذ المسدّسات من الدكاكين بسرعة.
تتشدّق البائعات.
هذه المدينة نتنة.

*

هذا المسدّس خزق لي رأسي.

*

يمكن التنازل عن حمل المسدّسات
وكتابة الشعر.

*

مسدّس دون أسئلة.
مسدّس دون أجوبة.

*

هذه كذبة جميلة،
إذا أطلقت النار عليها،
تغتال الكذبة،
وتخلّد جمالها.
وسيكون هذا الجمال شاهدًا أبديًا
لقسوتك وذوقك الحلو.

*

ترتعش اليدّ.
تبتسمُ اليدّ.

*

إن الليل بلعوم مسدّسٍ
ننظر في داخله
ببلاهة ولا مبالاة
بعد أن رُمينا بالنار.

*

مسدّسٌ جميل.



الأحد، 8 نوفمبر 2015

هل تعرف كيف سأجعلك تحبّني؟


:::  :::  :::
:::  :::  :::
:::  :::  :::



هل تعرف كيف سأجعلك تحبّني؟

سأفرش لك قطعةً من حصيرة على بلاطٍ في بيت من بيوت حيفا، سأفرش لك المائدة، ولتجلس أمام البحر.


:::  :::  :::
:::  :::  :::
:::  :::  :::


ما الجميل في هذه القطعة القصيرة جدًا؟
أنها تُلخّص، إلى حدٍ بعيد، جوهر الكتابة.

تبدأ، قبل كلّ شيء، بأداة استفاهم موجّهة للقارئ، إذ أن الأساس الأوّل لوعي الكتابة هو اعتبارها حوارًا بين الكاتب والقارئ. الكتابة لا يُمكنها أن تحقق ماهيّتها من دون تفاعل القارئ معها، بغضّ النظر عن شكل هذا التفاعل. الكتابة تُحقق هدفها حين يتفاعل القارئ معها، والتفاعل يُقاس بالقيمة المطلقة، بقوّته، بغض النظر عن اتجاهه سلبًا أو إيجابًا. لهذا، فإن السؤال، رغم أنه يفتح الحوار، إلا أنه استنكاريًا وغير معنيّ بوجهة نظر القارئ، وهي إشارة لذاتيّة الكاتب، أنانيّته، فوقيّته وتفوّقه في وضع النص الخالص، ذاك الذي يُحاور القارئ ويؤثر عليه دون أن يتأثّر هو بنفسه.

إن المهمّة التي يؤدّيها القسم الأول من هذه القطعة، السؤال، هو في كشفه عن التماس المركزي في الأدب – التماس بين الحقيقة والكذبة. من جهة، يصارح بمهمة الكاتب الأكثر صراحةً ومباشرةً: حيازة إعجاب القارئ به شخصيًا. لكنّ هذه الصراحة بذاتها متحايلة؛ إنها تستخدم كلمة "تُحبّني" لتُضفي على العلاقة لونًا عاطفيًا ورومانسيًا، تضع الكاتب والقارئ، بواسطة الضميرين المتصلين، في إناء عاطفيّ واحد، تضمّهم معًا في "الحُب". وجود هذه الكلمة في نهاية السؤال، عمليًا، يخلق حالةً يكون فيها الانطباع العاطفيّ، القلبيّ، الرومانسيّ هو القول الأخير الذي يبقى طعمه على لسان القارئ قبل أن ينتقل إلى القسم الآخر. لكنّ هذه الخاتمة العاطفيّة والقلبيّة، ما الذي تُغطيه وتُخفيه؟
إنها تُخفي كلمة "تعرف" وكلمة "سأجعلك". والأولى تصفع العاطفة إذ أنها تؤكّد أن العمليّة عقلانيّة وليست قلبيّة، إن ما سيجعلك "تُحب" و "تُعجب" بالكاتب، هو بالواقع أدوات عقلانيّة ومدروسة يشغّلها الكاتب على القارئ بخبرةٍ ومعرفة مسبقة. أما كلمة "سأجعلك" فهي عنيفة، في صُلبها الإخضاع، الإجبار، الوعيد. هذه العبارات بالذات تختبئ وراء عبارة "تُحبّني" اللطيفة.

ولا ينقص كلمة "كيف" أي شيء لتكون جزءًا من مؤامرة الكاتب على قارئه. فهي تشتغل بطريقتين في الوقت ذاته. أولًا؛ بحيث أن تشغل القارئ بالوسيلة، الكيف، وليس بالنتيجة. الكاتب سيُجبره، سيخضعه، سيجعله، لكنّ "كيف" تحوّل انظار القارئ للتفكير بالوسيلة والطريقة التي سيُكسر فيها القارئ، بدل من أن ينشغل بمقاومة هذا الخضوع للنصّ. وثانيًا؛ أنّ سؤال الوسيلة يوهمنا بتعدد الإمكانيّات. "كيف" معناها "بأي وسيلة؟" والأخيرة معناها: "بأي وسيلة من الوسائل الممكنة؟". تعدد هذه الوسائل، وطرحها كموضوع للسؤال، يبرّئ الجُملة نفسها، القطعة نفسها، من عمليّة الإخضاع والإجبار التي يتعرّض لها القارئ. إذ أن عنف الكاتب اتجاه قارئه ليس وسيلة من الوسائل، إنما هو عمل الكاتب. الكتابة هي العنف، الكتابة هي الوسيلة، بكليّتها، لإخضاع القارئ، وبالتالي ليس هناك تعدد للوسائل يمكن المفاضلة والاختيار بينها، إنما من لحظة الكتابة الأولى، يتورط الكاتب والقارئ في دائرة الإخضاع. ورغم أن الكاتب يستخدم الكلمة "سأجعلك" بصراحة بالغة جدًا، إلا أن مؤامرة الكاتب الكبرى تكمن في أنه يوهم القرّاء دائمًا بأنه لا ينوي الوصول إلى السُلطة، أن شغله لا يضمر الهيمنة على الواقع إنما يستعرضه ويحلل ويقرأه، إلا أن حقيقة الكتابة هي فرض الواقع وإملاء أفكارها على الأرض.

والكاتب في هذه الجملة يُظهر وعيًا لطبقات وعي القارئ، والقناة التي ستنخر ذهن القارئ وتخضعه. إذا نظرنا للجملة على أنّها رسم خط، لنتخيّلها تبدأ في الكتاب. بداية الجملة، من اليمين، هي عمليًا جهة القارئ التي يأتي منها إلى قلب الكتاب أو النص. الجهة اليُمنى هي جهة القارئ، ومنها يدخل إلى المصيدة باتجاه الكاتب. والجملة تصف سفر القارئ، من معرفته العقلانيّة التي يبدأ منها بالقراءة، وصولًا بانغماسه في النص المتحايل والوصول إلى استسلام عاطفيّ يعطّل العقل. أو فعل "تعرف" والأخير "تُحبّ". هذه هي الرحلة الذي يُريد الكاتب أن يأخذ القارئ إليها. أن يجرّده من قدرته على نقد الكتاب وعقلنة المقروء ومقاومته، إلى الإنكسار ونكران العقل والوقوع في العاطفيّ استسلامًا
.

والآن، في القطعة الثانية، نكون قد بدأنا نسحب القارئ إلى قلب الكذبة التي ستأكله. سنوهمه بأنه كلّ شيء، بأنه همّنا الأساسيّ وكل ما نفعله هنا، هو من أجله. يوهم الكاتب قارئه بأنه يكتب دائمًا من أجله ولصالحه، لماذا يتوجّه الكاتب لهذا القارئ إن لم يكن يحمل همّه؟ إذن، فإن ما يفعله الكاتب هو "لك". ولكنّ الاهم هو استخدام "الفرش" فعلًا، لأنّه من جهة يعبّر عن البسط، الكاتب سيبسط أمامك أنت كل ما لديه، سيفتح يده ويكشفها، عندما تفرش قطعة من قماش فإنك تستعرضها كاملةً بعد أن كانت مطويّة. إذن، فاستخدام هذا الفعل يوحي بانفتاح كاملٍ وصدقٍ كاملٍ من قبل الكاتب أمام القارئ وله. لكنّ الحقيقة من وراء هذا الفعل أنه يستر ويتكتم. فالمفروش يظهر كاملةً، لكنّه يغطّي كل ما تحته. أي أن الكلمة توهم القارئ بانفتاح الكاتب في اللحظة التي سيغطّي فيها الكاتب بلاطًا ما. والبلاط يلعب دورين؛ الأوّل ارتباطه بالسلطة، بخدمةٍ سيّد ما، فهو يحاكي "شعراء البلاط" من جهة، ولكنّه من جهة أخرى يُنزل القارئ إلى الأرض. الجُملة تموضع القارئ في الأسفل – ليس في برجٍ ولا على جذع شجرة ولا فوق غيمة ولا على كرسيّ. القارئ الضحيّة موضوع على الأرض. والأرض ليست ترابيّة ولا طبيعيّة، إنما هي المبلطة بفعل فاعل، الأرض المصطنعة، المفتعلة، القصد في أساسها، وإلزام القارئ إلى هذه الأرضيّة السلطوية التي ستتحكّم به، وإن كانت تعطيه الشعور بأنه من يجلس فوقها. والبلاط مغطّى بما نفرشه، بالقصّة التي نصنعها – بالقطعة الفنيّة. "قطعة من حصيرة" هي قطعة العمل الفنيّ الذي يحمل طابعًا فلوكلوريًا يحاكي الماضي الشعبيّ والمتعارف. والتعبير يعود مرّة أخرى إلى ممارسة نفس التماس بين الكذب والحقيقة. بين الإفصاح عن "القطعة" – قطعة النص، القطعة الفنيّة، العمل- وبين كذبة "الحصيرة" المستحضرة من التراث.

أما البيت فيأتي ليحتضن. شكل العبارة "في بيت" هو شكل مقعّر. يبدأ في نقطة الفاء العالية وينزل، يأخذ القارئ إلى العمق الدافئ في ياء حرف الجرّ، يجرّه إلى بيتٍ آمنٍ، مغلق من الجهتين بالنقاط العلويّة للأحرف. لكنّ هذا البيت الواحد، هذا الدافئ الشخصيّ، يعترف مرّة أخرى بأنّه "بيت من بيوت"، بأنه يكذب حين يقول أن حدود الكتابة بيتها، ورغبة الكتابة السيطرة على بيتها. لذلك فإن ذكر البيوت يُعلن نيّة الكتابة الحقيقيّة، استخدام الفرديّ للسيطرة على العام والجماعي والكلّيّ. وفي هذه اللحظة، لحظة التورّط بنيّة الكتابة المبيّتة للسيطرة على العالم – تأتي الخصوصيّة المحليّة. تأتي التفاصيل المسمّاة، تأتي الأماكن والتفاصيل الحقيقيّة والواقعيّة التي تعيد النص إلى جحرٍ محليّ ضيّق له صفاته وأسماؤه وحدوده الحقيقيّة – حيفا- التي تهدف لإضفاء طبقة من الحقيقة، عن طريق التفاصيل، على كذبة تحيكها.

هذه العلاقة التي تُبنى، تبدأ من الكاتب الذي يفرش قطعته، وعبر هذه القطعة نسافر. نتابع إلى الأرض المبلّطة، نتسع للبيت، تستمر إلى البيوت وتنتهي في حيفا الواسعة. هذه العلاقة نفسها، هي علاقة أسر القارئ وأخذه إلى رحلةٍ مهولة بشكلٍ تدريجيّ خادع دون أن  يعرف إلى أي وجهته. فهو حين بدأ القراءة لم تكن لديه أية فكرة عن أنه سيصل حيفا. ثم تأتي الجملة التالية لتفتح ما سبقها. تشرحه بمبالغة. تبدأ بفرش المائدة – والمائدة للدعوة، للإغراء، وعليها الأكل، الغذاء. الكاتب يدعو القارئ ويصطاده عبر إغراء رغباته، والمائدة إشارة لمائدة أفلطون التي تتناول العشق والجنس. وتنتهي في البحر الواسع، البحر الذي أوسع من حيفا، إخراج من المدينة إلى الطبيعة. من تفاصيل المدينة الخاصّة والمحدودة، إلى السيطرة التامة على الكون والطبيعة. لكن الكاتب يترك القارئ، مرة أخرى، جالسًا. مرة أخرى متموضع مستسلم، مُشاهد للبحر، يصغر أمامه. والكاتب يثق بأنه، في هذه المرحلة من الجملة، قد انتصر على القارئ تدريجيًا فهو بدأ بالقوّة - "سأجعلك"، ثم قلّت الحاجة للقوّة "سأفرش لك"، ثم انعدمت الحاجة لاستخدام القوة ضد القارئ، فيصرفه إلى الخضوع دون حاجة بالعنف – "فلتجلس"، وحدك، دون أن أجبرك.

الآن، بعد أن أُخضع القارئ كاملةً، واستسلم، هو الآن يجلس أمام البحر، الطبيعة، الكون الذي سيخلقه الكاتب كيفما شاء. القارئ المستسلم، وأمامه العالم كما سيخلقه له الكاتب. هكذا، يبدأ الكاتب بالسيطرة على العالم.