القول الفصل

القول الفصل

الأحد، 12 أكتوبر 2014

آلة الحُزن المُكعّب




-القطعة الرابعة-


ماريون بوست وولكوت - 1939


(4)

لم نعرف كيف انسحب أدهم من المقبرة. أشارت إيناس نحوه عبر شبّاك السيّارة التي كانت تقلّنا. لندعه وشأنه قال عِراق الذي جلس إلى جانبها. هل أقود السيّارة بدلًا  عنك؟ تابع صاحب الاسم الغريب، رفضت إيناس بالطبع. لم يكن ليتغيّر أي شيءٍ في هذه القصّة لو أننا أخذنا أدهم معنا، كان قد بدأ يترجّل من المقبرة متخذًا شارع الشاطئ شمالًا  وقد شاهدته سيليا يمرّ بمحاذاة "أروما الشطّ"، وهو مقهى يهوديّ كبير يفتح أبوابه على مدار الساعة. لم نفكّر حينها ما الذي كانت تفعله هناك، هي وصاحبها، في ذلك الوقت.

خمس سنوات يطوف أدهم شوارع المدينة وهو يعزف الهرمونيكا، دون أن يردعه عن ذلك أيتها عارض. لا سكّة القطار عند حيّ المحطّة ولا سماجة رجال البلديّة. لم يوقفه أي شيءٍ من تلك الأشياء التي كانت تستوقف الناس في حيفا؛ لا رائحة الشوارما في أوّل شارع اللنبي ولا التحيات الملقاة أمام الباب الهنديّ لمقهى فتّوش. لا دَيانا الخطّافة تستوقفه، ولا فاطمة الشحّادة، ولا ياعكوف يطلب السجائر، ولا صفحة السودوكو وصور العاريات في صحيفة "المدينة".  لم توقفه الألعاب الناريّة في عيد الصليب، ولا التلفزيونات القديمة تسقط من سطوح البيوت ليلة رأس السنة، ولا يهوديّات موريّا، ولا مندوبو منظمة Green Peace على مدخل عمارة الـ "سيتي سنتر". لا أزمة السير أمام مدرسة راهبات الناصرة، ولا سائح أجنبي كبير السنّ وزوجته المنهكة تعبًا في شارع الجبل يسألون عن طريق الوصول إلى حدائق البهائيين. حتّى خليل لم يتمكّن من أن يوقفه، وخليل هذا هو رجل خمسينيّ لا زال يقول (كلّ يوم، منذ عشر سنوات) أنه خرج للتوّ  من السجن ويحتاج مالًا  ليصل إلى الناصرة. لا شيء يوقف الرجل الذي بات معلمًا من معالم المدينة: أدهم الهرمونيكا. لا شيء إلا امرأة واحدة.

خمس سنوات عزف أدهم حزنه على مقتل ليلى ألحانًا فيها شيء من المرح. كانت ألحان دي فورد بايلي، بروني ماكغي، مودي ووترز، وغيرها من أسماء الفنّانين الأمريكيين التي لم نكن نعرفها قط قبل أن يبدأ أدهم تعلّم الآلة. كنّا نسخر ونحوّل الأغاني التي يجعلنا نسمعها إلى مواضع للنكتة والتهكّم، لكنّي كنت أحفظ أسماءها وأسمعها حين أكون وحيدًا. وأكثر من هؤلاء كلهم، يعزف أدهم يوميًا ألحانًا كثيرة لسوني بوي ويليامسون، وهو أمريكيّ أسود من دِلتا نهر المسيسيبّي، وكان يكرر، لساعات طويلة، تلك الأغنية التي عزفها عند شاطئ البحر.

خمس سنوات وصوت الهرمونيكا المكعّب يلاحقنا، يذكّرنا بأن شيئًا بيننا قد تحطّم إلى غير رجعة. كانت نغمات الآلة المختلفة التي تنطلق في اللحظة ذاتها بانسجام ساخرٍ خبيث تتحوّل فيما بينها متعثّرة. كأنّ النغمات تصعد إلى الغرفة دون أن تضيء مصباح غرفة المصعد، فإذ بها تتسلق دون أن ترى الدرجات، فتدوس الهواء تارةً وتكاد تهوي إلى الأمام ظنًا بأن المزيد من الدرجات لا زالت أمامها، وتارةً أخرى تصعد درجتين في آن فتكاد تهوي للوراء.

لم تكن نغمات الآلة مستقيمةً ملساء مثل بيوت الألمانيّة، بل مستقيمة خشنة مثل شارع ياقوت وغيره من الأزقة، المستقيمة الخشنة، الصغيرة المحدودة بين شارع اللنبي، شارع عين دور، شارع مار يوحنّا وشارع الخوري. أزقة قليلة، وصغيرة، بعدد نغمات آلة الحُزن المَرِح على موتِ ليلى.

كانت آلة أدهم تملأ المدينة.  بعد أقل من سنة من مقتل ليلى آضحت الهرمونيكا أشهر من نارٍ تلتهم الكرمل. الكثير من الأطفال عاندوا ذويهم حتى اشتروا لهم واحدة، وجمعيّة المشغل للفنون أصدرت ملصقًا يغلب عليه اللون البرتقاليّ الضارب إلى الصفار، يعرض دروسًا لتعلّم عزف الهرمونيكا، وصارت الآلة صرعةً ورمزًا للمدينة.

وبينما ملأ آدهم المدينة التي لأجلها استشهدت ليلى، كانت غرفتي خالية. خمس سنوات تقريبًا ولم نجتمع فيها كما كنّا نجتمع. خمس سنوات من الغرفة الفارغة لم تقطعها إلا مكالمةٍ هاتفيّة من سعيد تخبرنا بأن شيئًا طارئًا يجب أن نعرفه قبل أن تتغيّر حيفا مرةً واحدة وللأبد، وأن علينا أن نجتمع. أشار سعيد لأن نجتمع في الغرفة، صدّقناه.

حين جمعنا سعيد، بعد نحو خمس سنوات من الحادثة، في هذه الغرفة الحقيرة على رأس البُرج، لم يكن أدهم بيننا. أخبرونا أنه كان في تلك الساعة يشقّ طريقه حتّى وصل كاسر الأمواج خلف الكازينو المهجور في بات غاليم. كان يبحث هناك عن المرأة الوحيدة التي استطاعت خلال السنوات هذه كلها أن تجعله يسكن، أو يحكي، أو يعود إلى رشده بأي شكلٍ من الأشكال...


لكنّ سونيا لم تكن هُناك.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق