القول الفصل

القول الفصل

السبت، 11 أكتوبر 2014

هرمونيكا سريعة الانكسار



- القطعة الثالثة -

مارك روثكو (1956)


(3)

كان أدهم يُحب ليلى كذلك، من يعلم، ربّما أكثر مما كنت أحبّها أنا بنفسي.

لا زال الرجل، منذ ذلك اليوم، يهيم على وجهه في جميع أنحاء المدينة بقميصه البرتقاليّ الضارب إلى الصفرة. صار القميص مسودًا بعد كل هذه السنوات التي لم يُغسل خلالها. كلّنا نعرف القصّة، ومن لم يعرفها حكاها له سعيد. كان أدهم يلبس القميص البرتقاليّ الضارب إلى الصفرة صباح ذلك اليوم. قيل أنّه دخل من بوّابة البرج الرئيسيّة ومرّ بآليونا العجوز دون أن يلقي عليها التحيّة متقدّمًا في عتمة المصعد. تسلّق بضعة درجات ثمّ عاد أدراجه وطرح السلام: مرحبا ستّ إيفانوفا. نظرت إليه العجوز وفي عينيها عتب عنيف قد يمكّنها من أن تحمل السكّين الذي تفرم به الملوخيّة، وتطعن أدهم في عينيه في شفتيه في كفّيه في قدميه. لم يفهم أدهم عنفوانها إلا حين سمع صرخة تهزّ البرج، كانت هذه صرختي.

كان أدهم يُحب ليلى كذلك، ربّما أكثر مما كنت أحبّها أنا بنفسي، لكنّي أنا كنت هناك قبل أن يكون هو هناك، فأحبّتني قبل أن تُحبّه. أنا وصلت الغرفة قبل أن يصل إليها أدهم ففهمت الأمر قبله. كانت الصرخة التي نبّهته لأن يصعد إلى الغرفة هي صرختي حين فهمت بأن ما يقوله الأصدقاء صحيحًا؛ أن ليلى غابت إلى الأبد، أنها لا تنظر إليّ، ولا تصغي إليّ، ولا هي ترغب في أن تقبّلني. كان أدهم يتأخّر دائمًا، يتأخر دائمًا، لكنّه كان يلتحق بنا دومًا في نهاية المطاف. لقد قبل عقلي في مرحلةٍ ما أن ليلى غابت، وحسبت أن أدهم سيلتحق بنا إلى ذلك الإدراك وإن كان متأخرًا. لكنّه لم يفعل.

في مقبرة كفار سمير الضخمة، جنوبيّ حيفا وفي قاع وادٍ جاف كان يُسمّى وادي كفر السامر، تقدّمت نحو أدهم. لم يكن من الصعب أن أجده بين الجموع التي أتت بلباسها الأسود لتودّع ليلى، كان لا زال يلبس قميصًا برتقاليًا ضارب إلى الصّفار. اقتربت منه لكنّه ارتدع عن عناقي لسببٍ لا أعرفه. وقفنا أمام بعضنا البعض، ومددت له العلبة المستطيلة المغلّفة بقماشٍ مخملي أحمر. كانت حركته البطيئة في فتح العلبة قد أشارت إليّ بأن أُطلق البكاء المخنوق منذ ثلاثة أيّام تأخّر فيها الدفن.

لمحت شهبًا في عينيّه حين رأى الهرمونيكا داخل العلبة الحمراء. وجدنا ليلى تحملها بيدها اليُسرى في كيسٍ قماشيّ لمحلّ آلات موسيقيّة في نيويورك. بيدها الأخرى كانت تجرّ حقيبة السفر الثقيلة التي عادت بها للتوّ، وحملتها إلى غُرفتي أعلى البُرج حتى أُنهِكَت تعبًا، مما حطّ من قدرتها على أن تقاوم المجرمين الذين انقضّوا عليها حين فتحت باب الغرفة.

هل أزعجني أن لا يكون آخر ما تهديه ليلى موجهًا لي؟ ابدًا. لم أكن أشكّ بحبها لي. وكنت أعرف وجهة نظرها بشأن هذا الفتى. كانت تقول أنه سريع الانكسار، وأن هذه لصفة سُكّرها ثقيل. تعلّم أدهم العزف على آلة الهرمونيكا، لكنّ خاصته كانت قد ضاعت منه. كنّا قد مشينا جميعًا إلى تلّ السمك، ثم دخلنا ليلى وأنا نسبح في الماء المحيط بالتلّ، أما الأصدقاء فقد صعدوا لمشاهدة الحفريّات التي كشفت آثارًا بيزنطيّة أعلى التلّ. بعد قائق، التحق أدهم بنا، وفي الطريق سحب الهرمونيكا من حقيبة دوروثي، وهي متطوّعة في جمعيّة بلدنا، أتت معه دون أن نعرفها من قبل، وظنّ الجميع أنه مُغرمٌ بها. لم يكنّ له أي مشاعر اتجاهها، كنت أعرف أنه مهما تقرّب من الصبايا الأخريات، لم يكن يُحبّ إلا ليلى، ربّما أكثر مما كنت أحبها أنا بنفسي، لكنّي أنا كنت هناك قبل أن يكون أدهم هناك. هذا كلّ ما في الأمر.

يومها، مشى الرجل على الصخور السوداء والبنيّة النازلة في داخل البحر مثل أصابع المارد الشرير. كان المشي فوقها عسيرًا، إذ أنها مدببةً خشنة ومتواصلة، لا تقطعها في بعض الأماكن إلا جحور ماء تسبح بها السرطانات، أو صخور ملساء رطبة أصعب للمشيّ من تلك الخشنة، بحيث أن الخطو فوقها مستحيل من دون أن تنزلق، وإن انزلقت وقعت حتمًا على صخرةٍ مدببةٍ. حاول الشاب أن يجتاز هذه الصخور ويصل إلى الأبعد داخل البحر من بينها، أقرب الصخور إلينا، ثمّ بدأ يعزف الهرمونيكا. عزف لحنًا سريعًا طريفًا لسوني بوي ويليامسون، أغنية يقول فيها: "You think i'm jokin' but you better belive what i say".

كان صوت الهرمونيكا المكعّب كأنه يرسم مشهدًا من لُعبة "ماين كرافت" الشهيرة. كان ماء البحر يسحبني بعيدًا عن ليلى مثلمًا يبتعد زوج عن زوجته، دون أن يشعر بأنه إدمانه على البلايستيشن بدأ يزيد عن حدّه.

فجأةً، انزلق الفتى عن الصخرة الملساء، ضرب رأسه بصخرةٍ مدببة خلفه، ووقعت الهرمونيكا إلى الماء، وبينما هرعنا نحن نسعفه، كان البحر قد أخذ الآلة إلى حيث لا  ندري. سحبناه إلى الشاطئ بصعوبةٍ بالغة ونحن ننزلق نقع ونتكسّر بين الصخور. وعندما وصلنا، راح الطفل يبكي. وما عرفت إن كان يبكي على الهرمونيكا أو أنّه يبكي من شدّة الألم. لكنّ ليلى تقول أنه سريع الانكسار، وأن هذه لصفة سُكّرها ثقيل.

في المقبرة، عندما فتح أدهم علبة الهرمونيكا الجديدة التي أحضرتها معها ليلى من نيويورك، عبّأت الدموع فمي المفغور صائحًا مخنوقًا. لم أبك طيلة أيامٍ ثلاثة. وقفت أمامه أحتاجه، بحقّ القبور، أن يأخذني إلى حضنه ويضمّني. كنت مكسورًا، أما هو فقد كان ينظر إلى الآلة الجديدة بدهشةٍ وهو يُبعد العلبة ويقرّبها من بؤبؤيه. لم أحظ بعناقٍ منه، فانكسرت على نفسي، إلى الأرض، وقرفصت أبكي ليلى، دافنًا رأسي بين فخذتي، وهو ينتزع الآلة ويرفعها عن العلبة المستطيلة التي كان داخلها مفروشًا بقماشٍ أبيض ناعم، يُشبه مجسمًا مصغّرًا لتابوتٍ. كان أدهم يحمل الهرمونيكا بيده كأنما يلمس مولودًا جديدًا تقمّص روح حبيبته.

انفلت التابوت الصغير من يده. كنت أبكي عند قدميه حين شعرت بالعلبة تضرب مؤخرة جمجمتي بخفّة فتنغلق وتسقط أرضًا. غلاف مخمليّ أحمر من الخارج، بينما فُرِشَ داخله بقماشٍ أبيض لونه من لون جدران الغرفة الأربعة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق