القول الفصل

القول الفصل

الخميس، 10 يناير 2013

التعليمات

   الرسالة السابعة إلى ويليام





أتذكر الغرفة.

سوداء جوفاء خائنة الفصول. لم يكن ليلاً ربيعيًا ولا غير ذلك. كأن الفراغ الجاف والصمت الخشن مثل كرة حديديّة عملاقة تضرب بيتنا الخشبيّ، تحطّم جدرانه وتجلس في حجري، كأن الهموم كلها، كأن العجز كلّه، كأن الخيبة بحذافيرها تكوّرت وقصفت لتفتح غرفة النوم على انعدام الفصول. 
كان ذلك اليوم الذي توقّفت فيه الحياة بيني وبين أمك.

كانت فقرة واحدة طويلة مصفوفة على سطور الورقة الأولى، تنصّ على تعليماتها للمخرج؛ تصفُ المسرح وتصف الممثل الوحيد فوق الخشبة، تصف الأضواء وتصف الأصوات، ثم تصف الجمهور.

لقد كان في كلماتها وصفًا دقيقًا لغرفتنا، على أنها خشبة المسرح. وقد بدأت الفقرة بهذه الكلمات: "على المخرج الممثلين الإلتزام بهذه التعليمات حرفًا بحرف، فمن دونها لا تملك هذه المسرحيّة أي معنى أو مضمون. يُمنع تغيير هذه التعليمات، كلّف ذلك ما كلّف، حتى وإن أدى ذلك إلى أن لا تعرض المسرحيّة أبدًا، وهذا الاحتمال الأكبر، وفي حال لم يقبل الممثل تنفيذ المشاهد بحسب المنصوص في التعليمات، فيجدر به أن ينأى بنفسه عن المسرح والمسرحيّة، واستبداله بآخر أكثر جدارةً  بالخشبة."

كيف استطاعت أمك يا ويليام أن تكتب المشاهد الممتدة على ظهر عشرات الصفحات بهذه العقلانيّة الساديّة؟ كنت أقرأ المشاهد كأنها أحداث مجرّدة من الهواجس والشغف الشاعريّ، لم أقرأ نصًا في حياتي بهذا الحجم من الدقّة الدراميّة على لساني، لم أعرف يومًا أن جنوننا، أن لفافات الحشيش التي سلّمتنا  للغريزة، أن هوسنا السريع بقصةٍ عابرة سخيفة وقحة، وأن مغامرتنا الشقية الكبرى التي سقط تحت أقدامها رجال ونساء وأطفال من القريتين، يسبحون في دمائهم، لتولد أنت يا ويليام، كلها كانت بهذا القدر من التسلسل المنطقيّ الحاد.

لم أكن أعرف أن كذبة المسرح هي أن يقتل العقل ألوان الحياة، بأثرٍ رجعيّ. 

كانت نهاية صفحة التعليمات تقول ببساطة خبيثة: "... على المسدس أن يكون محشوًا بالفعل، ويمنع استخدام أي حيلةٍ إخراجيّة في أداء المشهد الأخير، على المخرج أن يقدّم بعض التضحيات من أجل أن يُنجز مسرحيّة ذات قيمة. نهايةً، من الضروري، كما هو معروف، أن تجري مراجعةً نهائيّة قبل عرض المسرحيّة، وذلك كفيل بالأمر."
إنها الروليتا الروسيّة يا ويليام. إن ما أخذته أمك من مئات الكتب التي غطست بها يوميًا، هو أن تطالبني بتفجير رأسي لينكشف (لي ولها) حبّها الكبير لقصتنا ولي. ألا يكفيها كل الدم الذي أرقناه؟ آن دوري؟ أم أنها تنتقم لأرواح هؤلاء الذين ماتوا ضحية ولادتك يا ويليام؟  

لقد قلت في الأمس أني لن أكتب لك مجددًا، وكنت جادًا في ذلك، لكني سأندم إن لم أطلعك على القصة الكاملة، لئلا تكون لديك حجةً حين يُحاسبك المشاهدون، فقد حملت تلك الصفحات وصفًا دقيقًا للمشاهدين، ولم يكن في الوصف ما يثير التفاؤل. 

تصبح على خير يا بُني.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق