القول الفصل

القول الفصل

الاثنين، 14 يناير 2013

العُـمّـاد

     الرسالة العاشرة إلى ويليام


الله - آرا غولير (1956)
يا ويليام،

هل ستسفك دم ذلك الرجل الطيّب؟ لعلّي أعتقد أن ما حدث لم يكن ذنبه قطّ، بل أعتقد بأن مثله لا يخطئون أبدًا، لعلها كانت خطيئتي أنا فحسب، لعلّي كنت ساذجًا أو غبيًا، لكن الأمر برمّته كان عبارة عن سباقٍ خسرته قبل أن يبدأ، كان عليّ أن أستمع إليها، أن أقرأ، أن أحب المسرح، قبل أن يبدأ السباق. 

كانت قامته طويلة، ولغته العربية قصيرة، وغرفته خشبيةً واسعة فيها معدّات الخشوع، تنزل إليها عن طريق درجٍ حديديّ من خلف غرفةٍ يبات فيها جريس شمّاس الكنيسة. يُقال، والله أعلم، أن غرفة الأب أثاناسيوس تخلو إلا من سرير ومئات الكتب باللغة الغاليّة التي لم يعد يستعملها الكثير من الإيرلنديين، إلى جانب الكتب الإنجليزية والكتب القديمة القليلة باللاتينية، إلى جانب كتاب عربيّ وقاموس ترجمة. 

لقد كانت فكرتي في البداية يا ويليام، أقسم أنها كانت فكرتي ولا ذنب لأمك أو لأبينا في بدايتها. كنا نجلس أنا وأمك تحت ذلك النصب التذكاري وسط الجبل، كما اعتدنا، وكنّا نبكي دون توقف- كانت هذه أول مرّة أبكي أمامها، آخر مرة كانت عندما وُلدتَ أنت: تكسّر الشاب صاحب العضلات والرأس المربّع. 

ثم وعدتها بأني لن أتركها إلى الأبد.

ثم وعدتها أن أحدًا لن يصيب شعرة واحدة من رأسها.

كان ذلك قبل أن تشيب. 

ثم قفزت مقترحًا أن تذهب إلى أبينا أثاناسيوس الذي لطالما فاجأنا بطيب تعامله وإصغائه، واتساع فضيلته لابتلاع خطايانا بإبتسامة. 

ذهبت أمك واعترفت أمامه بك، وعادت تبكي، وقالت اننا سنتزوّج، أن الأب سيتدبر ذلك، وأننا سنكون تحت رعايته وحمايته... وكان ذلك كافيًا.  

طلب أبونا أثاناسيوس من أمك أن أزوره صباح اليوم التالي، تمام السادسة صباحًا، فذهبت. هل فتحت يومًا باب كنيسة يا ويليام؟ إنه شعور يشبه فتح بوابات المدن، إنك لا تعرف هذا الشعور، ففي لغتك ليس للمدن أسوار ولا بوابات، إنكم تملكون فقط كائنات إسمنتيّة بعلو ثمانية أمتار ملوّنة بالمراهقة السياسية.

كان جريس يجلس على المقعد الأخير متثائبًا، أما الأب أثاناسيوس فظل ينظر إلى الصليب الكبير المعلّق فوق هيكل الكنيسة، ثم بعد دقائق التفت لي بابتسامة صباحيّة ومشى نحوي، أمسك بيدي وجرّني حتى وجدت نفسي واقفًا وراء الهيكل. تركني وعاد ماشيًا إلى المقعد الأخير حيث يجلس جريس، قبّله على جبينه وأمره هامسًا بالخروج. 

كان يتحدث إليّ وصدى صوته يتردد في الكنيسة كأنه كلام الله مع نوح، كما تروي القصص: "إن يسوع وحده من يخلّصنا من خطايانا، حدث ما حدث، صار ما صار، عليك الآن أن تكون رجلاً صالحًا وتبني عائلتك هذه، وعليك..."

توقّف لنصف دقيقةٍ ثم قال: "هي وأنت، وأبنك ويليام... إن كان الجنين ذكرًا، أن تكونوا خدمًا مطيعين."

ثم قال: "مطيعين للرب، مطيعين للكنيسة." 

انشغلت يومها بالتفكير بقراره الذي فرضه علينا بأن نسميك ويليام إن ولدت ذكرًا، ونسيت جملته الأخيرة التي ظننتها جملةً عابرة يقولها رجال الدين بكل مناسبة. يوم عمّادك، قالت لي أمك بأن ويليام كان اسم صديق عزيز لأبينا أثاناسيوس من موطنه الأصلي، إيرلندا، وقد قُتل هذا الصديق في الحرب. 

تزوّجنا دون علم أبناء عائلتها من القرية القريبة، وكانت سنواتنا الأولى عبارة عن استعداد دائمٍ لمعركة قادمة للدفاع عن بيتنا في حال هاجمتنا عائلة أمك لتثأر منّا ومما جلبناه عليهم من خزيّ. نظّفت بندقيّتي أكثر مما قبّلتك، وراودتني أحلام فيها كميّات من الدم أكثر من كمية الحليب والماء التي رضعتها في كل طفولتك.

لكنّه كما وعد أوفى، وأعلن في القدّاس أن أي اعتداءٍ علينا هو اعتداءٌ على الكنيسة، تمامًا كما تُعلن الحركات السياسيّة. 

لم ينقظنا تنظيف البندقيّة يا ويليام، بل استحمام أمّك.


أبونا رجل طيّب يا ويليام، وفضيلته تبتلع خطايانا، أما خطاياه فتبتلع حياتنا، ولكن هذا موضوع آخر.

هل تعرف؟ الآن، أتذكر يوم عمّادك، وأتذكر كيف حكت لي أمك عن ذاك الصديق الإيرلندي، وبأثر رجعيّ أتذكر البريق في عينيّ أمك، وشوقها المندفع لتحكي أكثر وأكثر عن ما قرأته في الكتب، لكن ذلك لم يكن موضع اهتمام بالنسبة لي. هل تعرف يا ويليام؟ ربما، لو أني في وقتها كنت أكترث لهذه الأمور، وسألتها سؤالاً بسيطًا مثل: "الحرب؟ بين من ومن؟" 

ربما كنّا الآن عائلةً سعيدة، وما كنّا بحاجة إلى هذه الرسالة الطويلة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق