القول الفصل

القول الفصل

الخميس، 20 فبراير 2014

كتابة سيّئة



إن الكآبة وحدها يا رفيق مجد، لا تصنع أدبًا جيدًا. والكتابة التي تولد لتنتقم، لا تزيد على دون كيشوت إلا عقدةً نفسيّة واحدة؛ أنه الآن، أنّك، اصبح يتخيّل نفسه بنفسه، أنه طاحونة هواء، وها هو، ها أنت، تعارك نفسك.

إن الحزن، واستجداء الرّحمة، لا ينفع مع الناس. إنهم ليسوا أغبياء ولا أنت غبيّ. وإن تعاطفوا، فيتعاطفون معك لا مع ما تكتبه. إن الوجع لا يكفي والمشاعر لا تكتفي لنحت الكلمات كما يجب، بل تحتاج إلى الموضوعيّة والتقييم والتمحيص في النص، وذلك ما يثبّته، لا انهياراتك الجوفاء. لقد صرت أجوف يا صديقي، والهوس وحده ما يحرك أصابعك فوق مفاتيح الحاسوب. لا العقل، ولا المحبّة، ولا الرغبات.

هذا الثقل الذي تشعر به في صدرك، لا يستبدل لا بالقطن ولا بالنُحاس، ولا يبني لك مستقبلاً، ولا يُحقق حلمك، هذا الثقل الذي تشعر به في صدرك يستطيع فقط أن يُذكرك أنك لم تكن تملك أيّ حلم، أنك لم تكن تنظر إلى أيّ مستقبل.

لكنك يا صديقي، لم تكن تنظر لا إلى الأمام، ولا إلى الماضي. آه، ولا إلى الحاضر. لم تنظر إلى الناس أيضًا، يبدو أنك لم تنظر إلى الناس. ولكن هل نظرت إلى نفسك؟ كُن هادئًا. لا أحد يعرف الإجابة. 

---

لم تكن ريم صغيرة، فلماذا أردتها أن تكون كذلك؟ كانت في سنٍ يُقرر فيه الناس إلى أي غدٍ سيقفزون مثلما يقفز البطريق في لعبة Air Penguin. كانت في سنٍ يرى فيه الحروب. وأنت؟ أنت أردت أن تراها طفلةً. أردت أن تحميها من الأوغاد اللذين لم يولدوا إلا في خيالك. وحتّى في ذلك: عجزت.

إن المحاولات هي النغمة التي تُذكرك بلحن العجز. لحن العجز أبديّ، وها أنت مرّة أخرى تستمع إلى أبو عرب، إلى أغنية غريبة تقول: "الله أكبر نادي حيّ على الجهاد، امشي طريقك على ربك لعتماد"، أغنية منتهى البساطة. لكنها لا تنتهي، لكنها مستمرة. تبقى مستمرة وتبقى أنت عاجزًا مرةً أخرى أن تكتب نصًا تقول به ما تُريد. لماذا تحاول مرةً أخرى؟ لماذا تحاول؟ لا تغيّر الأغنية: "الله أكبر يوم مَ أنوَر زأر، صلاح شاكر لغم بارود انفجر"

دقّات القلب السريعة هذه لا شأن فيها لا للهفة ولا لخيبة. دقّات القلب السريعة لأنك تجلس في مكانٍ بارد جدًا، ولأنك لم تشرب الماء منذ الصباح ولأنك صعدت الدرج مسرعًا ولأن أشياء كثيرة أخرى، جسديّة كلها، تقبض عليك الآن، على قلبك، الآن. 

ما الذي تعرفه عنك ريم؟ ولا أيّ شيء. ما الذي تعرفه أنت عنها؟ ولا أيّ شيء. ما الذي تعرفه أنت عن نفسك؟ ولا أيّ شيء. ما الذي تعرفه ريم عن نفسها؟ تعرف ما تريد، وتعرف أعداءها واضحين، وتعرف جيّدًا أين هي وكيف وصلت إلى هذا المستشفى. وهذا فقط ما يحتاج الإنسان أن يعرفه. 

لكنّ المشترك بينك وبينها أنكما لا تثقان بمن يقول لكم أن الأصدقاء والأقارب، لا زالوا على قيد الحياة.

---

كلّما قسّمت النص الذي تكتبه لأجزاءٍ أصغر، صارت الكتابة هشّة وتعيسة. هيرقليطس ظلّ هرقليطس، وأفلاطون كبر وصار اتحادًا أوروبيًا. كلّما قلّت الأحزمة العضويّة التي تمسك كلّ الكلام بكلِّ الكلام، وزادت الأحزمة البلاستيكيّة (باندات) هي ما يُمسك بكتابتك، صرت عاريًا تفتقد اللحم وتفتقد الجلد وتفتقد الوعي وتفتقد قلبك. تفتقد قلبك يا أخي. تفقد قلبك يا صديقي. تفقّد قلبك يا ولد.

كلّما بكيت أكثر، تذكّر: ليس الحزن ما يدفع الناس إلى المستقبل، ولا الحزن ما يبقى للناس في المستقبل. كربلاء ليس موضوعها الحُزن، كربلاء موضوعها رغبة الثأر.

تبدو غريبًا يا أخي. هل تعرف تبدو لي غير جدّي في أيّ شيء، ولا يمكن الإتكال عليك، وتبدو كأنّك تعيش برأسك. لكنك لا تبدو رثًا ولا بائسًا ولا تعيسًا. أنت تبدو كما أنت، عادي، مثل كلّ الناس في الحانة. تبدو غريبًا.

---

ليس في غرفتك مسطرة تقيس بها طول عضوك. ليس في غرفتك جُحر تقيس فيها عمق معرفتك. ليس في غرفتك مرآة طويلة تنظر فيها وترى المدينة. ليس في غرفتك مدينة، ولا فيك مدينة. أنت فقط غرفتك، لا شيء خارجها. وهل تعلم؟ لا شيء داخلها أيضًا. أنت. فقط. هي. 

طول عضوك يا صديقي ليس يُقاس بالمسطرة بل بالسّكين. دع طرف السكّين الحاد يلمس بطنك، وانظر إلى أين يصل رأس القضيب. وقس المسافة على السّكين. الآن اسمع منّي هذه الحيلة (تعلّمتها أيّام المدرسة): يُمكنك أن تشد السكّين وتغرسها عميقًا في بطنك، كلما غرست أعمق سيكون رأس قضيبك قد اجتاز مسافة أكبر من على السّكين. أكثر وأكثر. حتّى تقتلك رجولتك - الأورجازما أكثر الكائنات غرورًا في الحياة. 

---

دقّات القلب السريعة لأنّك لم تشرب الماء منذ الصباح. لأنّك جاف. ولأنّك في مكان بارد جدًا. لأن البرد جمّد عقلك. ولهذه الأسباب، ولأشياء كثيرة أخرى. صعدت الدرج مسرعًا، لتكتب هذه التدوينة.

هذا نصّ آخر انتهى، ولم تقل فيه شيئًا مما تريد أن تقوله. 

إن قرارك بالانتقام من ذاتك بدل الانتقام من الآخرين، كان قراراً رائعًا. ويمكننا أن نتنازل عن الكتابة الجيّدة، لطالما ستبقى هنا تقاتل نفسك وتتلوّى بآلام قاتلة تعذّبك أمامنا. نحن، أنت تعرف، نحب أن نتفرّج. ولهذا السبب وحده، سنسمح لك بالبقاء. 


* ملاحظة: قبل البدء بكتابة هذه التدوين شغّلت هذه الأغنية بحيث تتكرر. وقد تكررت أثناء الكتابة هذه الأغنية 63 مرّة. حاولوا، المحاولة تذكّر بالعجز. للاستماع للأغنية.


هناك تعليقان (2):

  1. صرت عاريًا تفتقد اللحم وتفتقد الجلد وتفتقد الوعي وتفتقد قلبك. تفتقد قلبك يا أخي. تفقد قلبك يا صديقي. تفقّد قلبك يا ولد.
    شكرا لانك وفرت علي ما اردت ان اقول اشرب الماء استرح وفكر من اجلك انت ومن اجل الناس الذين احبوك وما زالو

    ردحذف
  2. بتعرف شو.. إلي تقريباً شهر برجع على هالصفحه وبقراها ثلت اربع مرات وبقاتل حالي اني ماحطش تعليق.. بس زي ما انت شايف من بعد صراع داخلي عنيف قلت بكتبلك..
    الصراحه اني من زمان وانا اقرا مدونتك.. وبتقدر تقول انها صارت جزء لا يتجزأ من قرائاتي الأسبوعيه مع فنجان القهوه الصباحي.. وهالمره في اشي جواتي قلي انو لازم اكتب تعليق لاني حسيت انو هالمره اكثر من اي مره في بكتابتك كثير حزن.. وألم.. واستسلام..

    مرّه.. مش من زمان كثير.. في شخص قلي جمله رافقتني بكل اشي عملتهُ بحياتي ورح بتضلها مرافقتني دايماً: "تمسّكوا بخيوط العنكبوت ولا تستسلموا".. هاذ الشخص علّمني كثير اشياء غيّرتلي نظرتي عن الدنيا.. ولفتره طويله كان هوي بر الأمان بالنسبه إلي..
    وعَ فكره.. هاذ الشخص لحد اليوم إلو مكان خاص بقلبي..

    يمكن إليّ عمجرب قولو هوي.. مع انو كنا منتمنّى لوّينو الحياة هي فيلم (لأ, مش فيلم بورنو مجد!) إليّ بأخره البنت بتركض عالبحر وشعرها طاير بالهوا وحبيبها بركض عليها وبيحضنها وبلف فيها ثلث مرّات وبهمس بذينها قدّي اشتقلها وقدّي بحبها.. بس كمان بكفي تلاقي وحده تقعد معك حد الوجاق.. وتقبل تقلب الكستنا كل شوي..
    مرات السعاده بتكون موجوده بمحلات مكُناش متوقعينها..

    على كل حال انا مع "ابو المجد", اشرب ميْ (ميْ مجد! مش بيرا!) واسمع اغاني الشيخ إمام..
    وانا هون.. متابعه كتاباتك..
    على أمل انك تكتب اشي..
    مع أكثر أمل..

    ~مجهوله...

    ردحذف