"ساخطًا كان، أو ساحر الجمال." شارل بودلير. |
"...لأجل أية حياة آنيّة، كئيبة وتعيسة –هذا كله دون أن
نتحدث عن الضائقة المالية- يكرس نفسه من يهمّ بالمسير على درب الآلام التي نسميها
امتهان الأدب! منذ تلك اللحظة يمكنه أن يعي نفسه منفصلاً عن الناس: يتوقّف عن
الفعاليّة؛ يهجرُ العيشَ؛ يُشاهد الحياة. كل إحساس يصبح شأناً للتحليل. ينفصل،
مرغماً، إلى اثنين، ودون أن يجد موضوعًا آخرًا، يصير جاسوساً لنفسه. إن احتاج
جثّة، يستلقي هو على نُصُبٍ رُخاميٍّ أسود، وبفعل المعجزة الأدبية يدقّ إزميلاً في
قلب ذاته. وأي صراعٍ يخوض في مواجهة الهيولى، تلك الذات المتغيرة التي يتبدّل ظاهرها
دون توقّف، علّها تتنصل من السيطرة عليها، تلك التي تمنح إجابتها السماويّة فقط
عندما يُفرض عليها أن تظهر بشكلها الحقيقي! علينا أن نسمو بالتفكير-برعبه المرتجف
لوقع السطوة- حتى يلبس فستان معقّد النسج والتلوين، ونعرضه ساخطًا كان أو ساحر
الجمال.
المشاركة في اللعبة للمدى الطويل تنهك الأعصاب، تلهب
العقل وتفاقم الحساسية؛ ثم يأتي العصاب وعوارضه المضنية المختلفة، الأرق المهووس،
العذابات اللانهائية، أمنية الموت، انحرافات غريبة، أفكار تفرض نفسها ونفور غير
مبرر، نشاط جنوني وإرهاق مرضي، التنقيب عن إثارة عاطفية واحتقار للغذاء الصحي،
مهما كان. أنا لا أعرض الصورة مشوهةً؛ عدد من حالات الموت التي شهدناها مؤخراً
تشهد على دقة ما أقول. كل هذا قلناه عن الشعراء الموهوبين، الذين آتاهم المجد،
هؤلاء، بأقل تقدير، ماتوا على مذبح مُثُلهم العُليا."
20 شباط، 1868
تيوفيل غوتييه
ترجمة: مجد كيّال
ملاحظة:
تاتي هذه الفقرات في واحد من أربع نصوص كتبها تيوفيل غوتييه عن شارل بودلير، وهو المؤلَّف الذي يحمل عنوان "شارل بودلير" وقد نُشر في المرة الأولى سنة واحدة بعد موت بودلير بمثابة مُقدمة لطبعة المؤلف الخالد "أزهار الشر"، وكان بودلير قد أهدى هذا المؤلّف في العام 1859 لغوتييه نفسه، الذي كان يعتبره بودلير "أديباً فريداً ومجدداً لم يظهر له مثيل حتى الآن..."
* العنوان هو اختيار شخصي غير مذكور في النص ذاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق