القول الفصل

القول الفصل

الثلاثاء، 12 مارس 2013

"صلاة" تسأل عن سياقها




مشاهدتي للمقطع الموسيقي المصوّر "صلاة" لتيريز سليمان ويزن إبراهيم





يضع فيديو "صلاة" النصّ في مركزه وينسج حوله كلّ الباقي، فلا يترك لنا لا في الصوت ولا في الصورة مقولات تطغى على النصّ وتهمّشه، وليس في ذلك أي إشكال. لذا، فالنصّ أساسي في مشاهدة هذا العمل، وأكثر من هذا أن إخراج العمل وتصميم الصورة يضاعف من أهميّة نقد اختيار النصّ.

التلفزيونات في الصورة عامل أساسيّ وهو ترميز هام للمحيط الذي يصدر به هذا الصوت والنص، وهو ذاته الفضاء الذي يصدر به العمل (العمل نفسه معروض عبر الشاشات فقط وفي بلدان مختلفة حول العالم). إذن، فالفضاء الذي ينشأ فيه هذا العمل، ويأخذك فيه مدّة 8 دقائق دون أدنى شعور بالملل، هو فضاء تحيط به الصورة الإعلاميّة المتابعة والملاحِقة للحدث، وعليه فإن السياق الزمني والحدث التاريخي الذي نشهده أساسي فيما نراه. ونزيد على ما نقوله ملاحظة هامّة؛ أن المراحل الثلاث التي تنقسم عليها نوعيّة المشاهد المعروضة على شاشات التلفزيون، وبالتالي ينقسم عليها الفيديو هي أولاً- مرحلة خضوع المرأة التام، ثانيًا- مشهد السحل الشهير للمرأة المصريّة، أيّ رد الفعل القمعي على فعل نسوي ثوري، وثالثًا- صور لنساء تركن بصمتهن على التاريخ (بغض النظر عن النقاش حول مساهماتهن).

لنتركّز أولاً بالفرق بين المرحلة الأولى والثالثة من جهة والمرحلة الثانية من جهة أخرى، حيث نرى في المرحلة الأولى والثالثة صورًا ساكنة وثابته تعبّر عن قيمتين منشودة ومرفوضة، بينما نرى في الثانية مشهدًا (فيلمًا) متحركًا لسحل المرأة المصرية أو من أعتبرها شخصيًا هيباتيا مصر الحديثة.  هذا المشهد المتحرّك، وحيدًا بين الصور الساكنة الأخرى هو مشهد يحمل الفعل وردّ الفعل، يعرض الحال الثوري، يعرض المتغيّر. والمتغيّر هذا يُعرض عن طريق ردّ الفعل، واختيار المشهد من قبل المخرج يفترض مسبقًا بأن المشاهد على علم بخلفية هذا السحل، وأن المشاهد يعرف أن هذه المرأة كانت قد خرجت للتمرد على النظام السياسي والاجتماعي القائم ولهذا سُحلت، وإلا لماذا لم يوضع مشهد القمع هذا مع ما سبقه من مشاهد القمع في المرحلة الأولى؟

تصميم: نايف شقور
إذن، يفترض العمل مسبقًا أننا على علم بالحال الثوري الذي أدى إلى مشهد المرحلة الثانية، وأضف على ذلك أنه يقول أن هذه الصورة لا زالت ناشطة، متحركة عن دون غيرها، أننا داخل الصيرورة وداخل التغيّرات. هذه النقطة التي أعرضها أمامكم تورّط الأصدقاء القائمين على العمل بضرورة التعاطي مع سؤال توقيت العمل ومعنى اختيار النص الآن، في هذه المرحلة التاريخية.

من هنا نعود إلى النصّ، ونسأل: كيف تنسجم المعطيات الإخراجيّة أعلاه مع نص كُتب في ذروة الخيبة العربيّة (2005-2006)، وأكثر من هذا، كيف ينسجم مع نص تحمل افتراضاته الأساسيّة الجملة التالية: "موج تاريخنا جامدٌ، والزمان، تُراه توقّف؟" (أدونيس، تاريخ يتمزق في جسد امرأة، ص 36). وكيف يجب أن نستقبل في هذا السياق الإخراجي نصّ (وشاعر) يسبح في ادعاء تشظّي المدينة العربيّة: "مُدنٌ تتشظّي- مدن ميّتة" (أدونيس، ص45) و"كل مختونة جثّة" (ص 42) و"بيتها موتها" (ص 76).

هذا الاصطدام بين النصّ المتركّز في الجسد من جهة، وبين النهضة التاريخية للمختونة من موتها، وانتفاض المدن، اصطدام يصعب تحمّله. أم أن قصد القائمين على العمل أن يضعونا في هذا المأزق؟ إن "الصلاة" للجسد، هي المسألة التي يجب أن نطرحها في الظرف التاريخي.

في النص ما يخدعنا، وما يوهم القارئ والمستمع أن ملكية المرأة على جسدها تتوحّد وتنسجم بالضرورة مع تقديس الجسد. إن القداسة، حتى وإن اعتبرناها قداسة للـ"أنوثة، للجنس، للنزوات وللصبوات" (ص 11) تبقى ثابتًا مطلقًا يستدعي الخشوع و"الصلاة". هذا الخشوع للنزوات يتحوّل بالعمل والنص من خشوعٍ لحظي وحسّي في وقت ممارسة النزوات والنشوات إلى خشوعٍ فكريّ ينفي العقل والنقد، أي ينفي الرفض المطلق للخشوع.



لدينا هنا سؤال سياسي حول فردانيّة التحرر، إن كان هذا الحفر العميق الذي نراه في جسد المرأة، في رئتيها وصدرها ورحمها وذاكرتها هو طرحٌ تحرّري؟ وبصيغة أخرى نسأل: هل يُمكن للحفر في الذات أن يؤدّي للسيطرة على الحيّز العام؟ أم أن العكس هو الصحيح؟ الإجابة التي يقدمها العمل الفني "صلاة" تتناقض مع ما يحدث للوطن العربي، تتناقض مع محاولة دخول المرأة إلى الحيّز العام بالقوّة، بقوّة الثورة والتظاهر والتنظيم السياسي، وترسيخ ملكيّة الجسد ليس من منطلق قدسيّته نفسه، بل منطلق إخراجه من المقدس إلى المُباح في إطار مجتمعٍي تتساوى فيه ملكيّة الناس على أنفهسم.
 
ظهر هذا الفيديو في يوم المرأة، في يومٍ نضاليّ أحيته الحركات النسويّة في العالم بالتظاهر والخروج إلى الحيّز العام بقوّة، فألا يكون هذا الفيديو خطوةً للوراء في زمنٍ تتقدم به نساء الوطن العربي إلى الأمام؟ إلى خطوط المواجهة مع العساكر والعملاء الظلاميين في اللحظة ذاتها؟

الإحتمال الآخر هو أن نطرح هذا العمل، بهذه الصيغة، كتحدٍ للهروب الثوري إلى الأمام، من أسئلة إنسانيّة جوهريّة حول طبيعة علاقتنا بأجسادنا قبل علاقتنا مع النظام؟ من الفرد إلى النظام؟ لا أميل إلى هذا الاحتمال، فهذه احتمالات ليبراليّة سريعة التهافت.

صوت تيريز سليمان جميل جدًا، لا أحد يعرف صوتها ينتظرني ان أقول هذا. ونقطة الوسط بين الغناء والإلقاء فيها ما يثير الاهتمام، إلا أن تيريز اعتمدت على صوتها دون أن تعطي استعراض وجهها وجسدها أي وزن فني أو تحمّله مقولة، أما وجود يزن إبراهيم في الصورة -كرجل محجّب بشعره في الخلف- فهو، برأيي غير العلمي، أكثر حضورًا مما عزف، فقد كان العزف الذي قدمها مسالمًا، ينسجم بسلاسة، إنما دون حضور صلب ومثير للتركيز.

لو كنت أستطيع، بأعجوبة ما، أن أغيّر شيئًا واحدًا في هذا العمل كنت سأعرضه حيث لا يرجع العرض (مقارنةً مع مناسبة عرضه) خطوةً للوراء، بل خطوةً للأمام. كنت سأعرضه في عيد الأم بدل يوم المرأة، وسأهتف بعد الانتهاء من عرضه ما يقوله أدونيس في الصفحة الثامنة: "إنها امرأة: مرةً قيدها طفلها. مرارًا قيدها زوجها." وأردد ما قاله في الصفحة التاسعة والثلاثين، حين تقول المرأة لطفلها: "نسيت فراش أبيك، ولي شهوات، وأبحث عمّا يمتّع". 




موسيقى: تريز سليمان ويزن إبراهيم
إخراج: عامر حليحل
اخراج فوتوغرافي ومونتاج: محمد خليل
منتج فني: نايف شقور
منسقة إعلامية: رشا حلوة
تقنيات: بشار طرابشة

النص: من ديوان "تاريخ يتمزّق في جسد امرأة" - أدونيس
إعداد: تريز سليمان
ترجمة للإنجليزية: إياد معلوف 

هناك تعليق واحد:

  1. اذن هل الاستنتاج هو أن الفنانين في فلسطين لم يستنشقوا روح الثورة العربية حتى الآن؟

    ردحذف