القول الفصل

القول الفصل

الجمعة، 22 يونيو 2012

أنا، بنيامين والزمن: صورةٌ جانبيّة...




أنجيلوس نوفوس - بول كلي



يربط وولتر بنيامين في القسم التاسع من مؤلفه "عن مصطلح التاريخ" بين لوحة السويسري باول كلي "أنجلوس نوفوس" وبين التاريخ. يحكي عن اللوحة: "إنها تصوّر ملاك يبتعد من شيء ما ويحملق إليه. واسع العينين، فاغر الفم ومشرع الأجنحة." هكذا يرى بنيامين ملاك التاريخ:

"يدير وجهه إلى الماضي، باعتباره تسلسل أحداث، يرى كارثة واحدة تراكم الحطام تحت قدميه. يُريد الملاك البقاء، ليُحيي الأموات ويرأب الحُطام. ولكن عاصفة تهبّ من الجنّة لتضرب بعنفٍ بأجنحته، لتحول دون قدرته على ضمّهم. هذه العاصفة ترميه دائماً نحو المستقبل، الذي إليه يُدار ظهره، بينما يتراكم الحطام أمام الملاك ليصل السماء. وما نسمّيه تقدماً، هو هذه العاصفة."

اشترى وولتر بنيامين هذه اللوحة في العام 1921، ليقف الفيلسوف أمامها فعلياً ويستنتج ما نقرأه الآن. ولكن، لنُفكر: ما الذي يمكن أن نستخلصه نحن من هذه الحالة؟ يعرض بنيامين مفهوم التاريخ بتفسيره اللوحة الماثلة أمامه، فلماذا لا نقرأ نحن علاقة الإنسان بالتاريخ عبر الصورة التي نراها لبنيامين يقف أمام لوحته؟ علينا إذن، أن نتخيل صورة جديدة، نلتقطها من الجانب، للعلاقة بين عالم بنيامين وعالم اللوحة.

ينظر بنيامين إلى الملاك والعالم الذي خلفه، أي إلى الملاك في إطار لوحة المُستقبل. وينظر الملاك إلى بنيامين والعالم الذي خلفه، أي إلى بنيامين في إطار صورة الماضي. وسنفترض في هذه المرحلة بأنّ الحاضر هو البعد  بين بنيامين والملاك، باعتباره الفاصل بين ما خلف بنيامين –الماضي- وما خلف الملاك –المستقبل.

التفصيل الذي يجب نبدأ من الانتباه إليه في هذه الصورة، هو أن المستقبل الذي ينظر إليه بنيامين هو بالحقيقة، لوحة مرسومة. أي أنه ذات متخيّلة، وهي متخيّلة ليس فقط في كونها ناتجة عن خيال رسّامها، بل أيضاً متخيّلة لأنها في سياق الصورة التي نراها نحن (من حيث نصوّر، أيّ من الجانب) ليست حيّزا قائماً في فضاء الصورة، بل شكل هندسي ذات بعد واحد، ممدود وسط مستطيل ما (والمستطيل هو الصورة). وهذه الصفة للمستقبل- أي أنه متخيّل- هي صفة شرطية وجوهرية له. رؤية المستقبل لا تشغل حيز حقيقي، ولا تملأ فراغ في حيّز الصورة المستطيل، هذه التي نسميها في حياتنا :"الواقعية". نحن نتخيّل المستقبل في سياق الواقعية، وإطار الواقعية المحيط يجعل المستقبل (كما نتخيله) محدود الأبعاد دائماً، بحيث تقل أبعاده عن الأبعاد التي يمكن لتضاريس الحاضر والماضي أن تحتويها.


ينظر بنيامين إلى المستقبل الذي خلف الملاك، إذن، وهو لا يستطيع أن يرى المستقبل إلا والتاريخ جزءاً منه، لا يمكن أن يرى اللوحة دون الملاك داخلها. نحن نتخيّل التاريخ في سياق الواقعيّة، لكن الصورة المُتخيّلة تتضمن أيضاً سطوة التاريخ عليها. فما شكل التاريخ الطاغي على رؤيتنا للمستقبل؟ إنه الماضي الذي يراه الملاك، التاريخ هو الماضي كما ينعكس في عينيّ الملاك، وهو ليس انعكاساً موضوعيّا البتة، لأنه متأثّر بالخصائص الذاتية للملاك وهي خصائص تصممها حركة الملاك وإمكانيات تفاعله، وفي هذه الحالة العينية، التاريخ هو الماضي الذي ينعكس في عينيّ الملاك، وهو ليس انعكاساً موضوعياً البتة، بحيث أنه متأثر بعجز الملاك المُطلق عن التحكّم بمكانه على محور الزمن، عجزه عن التوقّف، عجزه عن مواجهة العاصفة؛ لا يمكن للماضي أن يتحوّل تاريخاً دون سطوة العجز المُرعبة، تلك الآتية من "الجنة"، أي من قوانين التقدم الزمني المطلقة التي لا يمكن للإنسان مواجهتها، ولا يمكن أن نتصوّر المستقبل دون سطوة التاريخ المُرعبة.

نهايةً لا بد أن نعود إلى البعد الفاصل بين بنيامين واللوحة، بماهيته واتساعه، وعليه، فإن هذا البعد هو بالحقيقة عامل يحدد مجال الرؤية الذي يتمتع به بنيامين، وهو المجال الذي يفصل بيننا وبين المستقبل. هذا المجال هو بمثابة الإمكانية اللحظية الوحيدة لمعاينة التاريخ والمستقبل (كلاهما في اللوحة)، وهي الإمكانية الوحيدة لإنشاء بنيوية عقلانية للتقدم، أي التسليم به على أساس رؤية معينة ما، تحوّل التقدم الزمني إلى فعل بسياق وعي، وهذه المسافة التي نقوم خلاله بهذه العملية ليست قريبة ولا بعيدة، بل هي المسافة المسماة "حاضراً" على محور الزمن... وهي المساحة التي يعيش خلالها هذا النص.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق