|مجد كيّال|
ليس ضيفاً ولا إضافةً |
بعد استشهاد فيتوريو آريغوني في غزّة في الخامس عشر من نيسان الأخير، شنقاً على يد جماعة "سلفية" اختطفته، تصبح قراءة مذكراته في الحرب على غزة "غزّة: ابق إنسانًا" مهمة مضنية. فمن جهة، يجابهك خطر الامتداح الملحمي بما يحمله من كليشيهات مستهلكة. ومن جهة أخرى لا يمكن تجاهل سياق أحداثٍ يسبق خلالها الكاتب مخطوطته بخطوات، فبدلاًً من أن تتقمص الكاتب لتنظر عبره إلى المكان والشخوص والحالة، تجد نفسك مضطراً إلى تقمص غزّة، لتنجز التنقيب عن ملامح الشهيد. إننا أمام تناقض مولود من مأساة المشهد الثقافي: الفجوة المؤسفة بين قيمة الكلمة وثمن التضحية.
الكتاب، في سياق استشهاد صاحبه، يدعونا للتركيز على فهم العلاقة بين الكاتب وما يدور حوله، إنها قضية مركزية؛ إننا نتحدث عن كتاب مذكّرات لرجل يأتي من مكانٍ بعيد ومختلف، رجل غريب، ولكن هذا الغريب متماه تماماً مع القضية التي تصمم المشهد المعروض في الكتاب (ربما أكثر من فلسطينيين كثر خرجوا لإضاءة الشموع تضامنًا مع غزّة) إن الكاتب المغترب لا يمارس- غالباً- اغتراباً عن المشهد، إنه يتمسك بالـ"نحن" حين يتحدث عن أهل غزة، ويتعامل مع وجوده في المكان كمفهوم ضمنا (ليس هكذا الأمر بالنسبة لنا) فهو ليس ضيفاً ولا إضافةً على الصورة القائمة، إنما هو جزء من المشهد، كما أنه يعرج على قضايا نعتبرها نحن "شأنا داخليًا لشعبنا" كما في هذه الجملة مثلًا: "عندما يبدأ زخ القذائف من السماء عن ارتفاع 10 آلاف متر، يمكنك ان تتأكد أنها لن تميّز بين علم فتح وعلم حماس المعلق على شباك بيتك". ومع ذلك، نلحظ الكاتب ينسل عائدًا بخفة إلى غربته تمهيداً حاذقاً لتوجيه نداء إلى القارئ الأوروبي.
من الظلم اتهام النص بزلّات بكائية، بالرغم من أنها موجودة. لقلّتها أولاً، وثانياً لأن طبيعة الكتابة الآنية للمذكرات في زمن المجازر والدم اليومي يحول دون إعطاء الحيز الزمني الكافي لاختمار الكتابة الأدبية.
ينتقل آريغوني بين أنماط كتابة عدة، فيبدو صحافياً ينقل الحدث بتفاصيله الجافة، ثم يلبس ثوب الاستعارات بنقل المشهد أدبياً، ثم يذهب في تحليل سياسي ينم عن معرفة ومتابعة للصحافة وصناعة الرأي العام. أما في تشخيص الواقع السياسي داخل غزة. أما في الجانب الاجتماعي فقد يُلام فيتوريو على تجنبه توجيه النقد لحالة الأسلمة المفروضة على السياسة والمجتمع.
*
يتمسّك آريغوني بتذييل النص اليومي بعبارة "غزّة: ابق إنسانًا" وهو عنوان الكتاب. لكن بوصلة الكتاب السياسية تشير إلى إنسانية أخرى غير تلك التي تحبها صناديق التمويل الغربية ومؤسسات تكريس دور الضحية. يتصدى فيتوريو لعنجهية الغرب "المتضامنة"، فالكاتب لا يحاول ابتذال إنسانية الفلسطيني، وكأنها أمر غير مفهوم ضمنا وبحاجة لإثبات. إنه يتخلص من منطق حقوق الإنسان المترهل بتشديده على تسييس الحالة، فيشترط الإنسانية بالتمسك بالانتماء إلى "الوطن الأصلي والتعبير عن الهوية والحق في السيادة". ويقول أيضًا: "يسألونني في المقابلات عن أوضاع الفلسطينيين الإنسانية في غزة، وكأن المشكلة هي مشكلة أكل وماء وكهرباء ونقص في الوقود، بدلًا من أن يهتموا بالسؤال الحقيقي: من الذي يسبب كل هذا عبر إغلاقه الحدود وتفجير أنابيب المياه ومحطات الكهرباء؟"
هذا النوع من الوعي هو الوحيد القادر على تقديم تفاصيل الإنسان الفلسطيني بضعفه وانكساره، انهياره وسخطه في سياق سياسي للمقاومة الفلسطينية.
وضع كتاب "غزّة: ابق إنسانًا" باللغة الإيطالية ونشر في العام 2009، ثم صدرت الترجمة الإنجليزية عام 2010 عن "Kube" للنشر بتقديم المفكر إيلان بابي. يقع الكتاب في 130 صفحة من القطع المتوسط.
* بعد مقتل فيتوريو بأيام كتبت في صحيفة "فصل المقال" قراءةً بذات المضمون تقريبًا، تحوي ترجمةً لمقتطفات من الكتاب ومن مدونة فيتوريو، وقد لا يجد من قرأ المادة السابقة تجديدًا كبيرًا في هذه المادة. مما اقتضى التنويه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق