القول الفصل

القول الفصل

الثلاثاء، 12 أكتوبر 2010

أكتوبر: قصّـتي/ مجد كيّال

بعد أن صمتت الأغاني، أطفأت الراديو وسحبت الطرّاحة –هكذا كنت أسمي الفرشة الصغيرة التي نمت عليها حتى سن الخامسة- وفتحت الشباك. نمت على الأرض تحت سرير والديّ…








1
“يمّا، يمّا، ليش انتِ بتدخنيش زي خالتي وجيهة، م أنتِ كمان بتحكي بسرعة زيّها”، يتكرر السؤال ذاته في كل مرة نلتقي بها خالة أمي في القرية، شعور الخسارة ذاته؛ “يا ريت كنت أعرف خالتي وجيهة وهنّي ساكنين بحيفا، كنت بضل ألعب عندهن على الكمبيوتر.”


كان دائم الانشغال بحاسوبه فلم يزعجه قفزي عن الدرجات القليلة الداخلية في المنزل لتسلية نفسي أمام أحاديث غير هامة، بالنسبة لي، تدور بين أمي وخالتها، أمه. لم أكن أعرف السبب، إلا أنّ السؤال كان هامشيا في حينه، وأصبح الآن مُلحًا، في امتحان الذاكرة: “لماذا يضحك وحده أمام الشاشة؟ هل هذا لأنه يضحك دائمًا؟ حتى حين يرقص في الأعراس؟ وحتى في “شوارما الحلال” ليلة العيد؟ وأيضًا حين يجلس أمام هذه الشاشة؟” بالإيجاب ستجيب، مع الأيام، معلمته، ثم معلمتي، “مالكة” في رياض أطفال “راهبات المحبة”.

 2

لا زلت بعد عشرين عامًا من المنافسة، أؤمن بقدرتي على إلحاق الهزيمة بكل أبناء عائلتي كبار السن في مباريات أغاني الثورة، أغاني العاشقين، أغاني الانتفاضة الأولى (شريط الفرقة المركزية ووليد عبد السلام) وأغاني الشيخ إمام. كثيرة الأغاني التي لم تكن واضحة الكلام نسبة لطفل في الثامنة والتاسعة من العمر، فآثرت اختراع كلمات بنفس الوزن وبمعانٍ قريبة، لئلا أذلّ نفسي أمام المنافسين الأشاوس.. كان النصر الحاسم الأول حين حصلت على تسجيل أغنية “يا محمّد يا زر الورد” تخليدًا لحادثة الطفل الذي هاجم الجنود برضّاعته… أغنية رديئة كانت، إسلامية المزاج… ولم أجد فيها إلا جائزة: “ولا حدا فيكم بعرفها!”




3
كنت أداوم على تقليد ما أراه في شاشة التلفزيون. في الشتاء، عندما لم يكن بوسعي أن أقنع والدي بالنزول إلى البحر لرشق الموج بالحجارة كما يفعل الناس مع الجنود في التلفزيون، كنت أزيد على تخيّل الجنود تخيّل الحجارة، فأكتفي بالتمثيل بالإيماء في غرفتي الصغيرة. لم أكن، في خيالي، أخشى أيّ جندي، إلا أنني كنت أخشى أن يفتح والديّ باب الغرفة ليكتشفوا ما الذي يفعله هذا الـ”أهبل”، أو ينادي أحدهما الآخر ليشاهداني وينظران مثل مراهقين.


4
بقي المناضل الشيوعي العريق يخطب على منصة يوم الأرض 2000 في سخنين، ثم بدأ يصرخ: “بدون أعمال صبيانيّة يا شباب.. بدون أعمال صبيانية”. من الألوف التي تركض نحو معسكر الجيش، لم يسمعه أحد. أحد الشبّان الذين ركضوا أمامي ربط العلم على عنقه منسدلًا على ظهره؛ رأيت وشاح سوبرمان، وانشغلت لساعات وساعات بتقليد سوبرمان الذي غاب عن مدى بصري، لأستحضر ما رأيته في الشاشة، من سوبرمان، ومشاهد الانتفاضة الأولى.


أصيب “الخال” بثلاثة عيارات مطاطية: بالقدم، بالرأس وبالعنق. بعد أول إصابتين استطاع العودة إلى الاشتباك، بعد الثالثة نقله الإسعاف. عندما شاهدتُ أمي تحمل “ورد” الصغير لتحتمي بظلها مجموعةً من الشبّان، علمتُ أنّ “الخال” بحالةٍ جيدة… لأنّ أمي تحب البكاء كثيرًا، لكنها لا تبكي الآن بالرغم من أنه الخال المفضل لديها بين أخوتها.. ولأنّ أبي كان يقول إنّ “المطّاط هَبَل”.. ولأنّ.. سوبرمان لا يموت. فتابعت تقمّص الأدوار: كانت المرة الأولى التي أحمل بها حجرًا حقيقيًا.


5
بُسطار ضخم في قدم نونو يقتحم الحاجز الحديدي الذي نصبته الشرطة لتحمي استقبال الوزير في بلدية شفاعمرو في عيد “الإستقلال”. بعد اشتباك طويل تذكرت أني أتيت برفقة أمي، وأني لم أرها منذ الطلقة الأولى. بعد أكثر من ساعتين وجدتها. كانت المرة الثانية التي أحمل فيها حجرًا حقيقيًا، مرة أخرى لم أصَبْ بأذى. لم يمت أحدًا ولم أرَ قطرة دم واحدة.. “أحلى إشي ضرب الحجارة.. بصرش إشي.. مكسينون مكسينون بضربوك مطاط.. زي خالو.. المطاط هَبَل.”


6

بيتنا الصغير لم يتسع لأعصابي واستعجالي. اتصالات أمي لا تتوقف، وأنا أكره أن أخمن من أجوبتها الأخبار الواردة من الجانبِ الآخر. كانت المرة الأولى التي لا يكترث فيها أبي لغلاية القهوة، والصباح الأول الذي لم يمازح فيه أخي الصغير؛ “يوم الاضراب ليس للنوم” يصرخ أبي بغضبٍ مجبول بفرحة الفرج.

- لا تزال السادسة صباحًا، تجيب أمّي بتفهّم.



“هنا إذاعة القدس الإذاعة العربية الفلسطينية على طريق تحرير الأرض والإنسان، أيها الإخوة المناضلون جاءنا الآن ما يلي: “اشتباكات على مدخل نابلس، اشتباكات على حاجز المنطار، اشتباكات في أم الفحم ويافا ووادي الجوز.. أسماء كثيرة وأخبارٌ تنفي بعضها وتؤكد بعضها الآخر. في أذني اسم واحد يخلد سطوة المذياع: “رائد عبد المعطي اللوح”. وحدها الأسماء المجهولة تصنع الذاكرة الصادقة. ألتصق بالمذياع متوترًا فيصفعني طلب أمّي من جديد: “غيّر على راديو 2000.”




7

لم تتناقش أمي وأبي، بعد مظاهرة الأمس، إن كان المناضل اليهودي عميلًا أم لا، كانت أمي متسامحة في ذلك اليوم فأعادت النظر، للمرة الأولى في حياتها، فيما بدأت تعدّه من طعام: “سأحضّر الساندويشات، الله أعلم شو بصير.” أنا تبرعت بالإضافة: “أنا بقول فش حاجة ورد ييجي”. كم كنت أحب أن أكون أخًا كبيرًا. تردّدت قليلًا ثم قررت: عليَّ أن ألبس حذاءَ درس الرياضة، لا الصندل. وانطلقنا… كانت المرة الأولى التي أقبل أن نشغّل الراديو في السيارة، بدل شريط “جورج قرمز”، في طريقنا إلى عرّابة.






8
ترتفع قبضة نونو في الهواء. ينهي ترديد الشعار فتهبط يده الثقيلة مطلقةً زفير الزوبعة. يرد جيش من المراهقين بالزي الموحد؛ طلبةٌ بدّلوا الطلَبَ، فبدلوا الشهادةَ بالشهادةِ. لا يرى المراهقون المراهقات، لا ترى المراهقات المراهقين. صار الصراع غريزةَ البقاء، وفي الغرائز يتطرف المراهقون من دون هوادة: “على المَل، يا فدائي على المَل، على الملّ…”

المَلّ بعيد. وعندما يتقمص الأطفال دور الفهود، يصبح الزمن أكثر بلادةً. الطريق إلى الملّ بعيد بعيد. لم يكن ساعِدي قد اشتدّ حدّ وصول الحجارة إلى حيث زُرع الجنود، بين السرّيس. كنت أفضّل الزوايا، فالضرب من الزوايا أقل خطرًا. هكذا كنت أظن عندما لم أكن على دراية بشأن من ينصبون الفخ لأقدارنا.


كنتُ حيث الضجيج، أتقدّم أحيانًا، أضرب ما استطعت وأعود إلى الضجيج؛ في المقدمة، حيث المنكبّين على القتال، الأمور أكثر هدوءًا، يضربون فحسب، لا يتكلمون. في الخلف، يستعيض المتردد بالترديد: “الله أكبر ولله الحمد.”

لم أرَ بالأفلام يومًا، ولا بمسلسلات “الجوارح”، ميدانًا مظللًا، يخبّئ الزيتونُ فيه استعدادَ الشباب للموت، عن عيون القناصة وعنّي. أنا لم أفكر عندها باحتمال الموت.. لقد حسبت أنّ الأمر ذاته: “مَهُو المطّاط هبل.” بهذه البساطة تلاشت إمكانية الموت، كما تلاشت رائحة مزبلة لا تحتمل المجاز من هذا الميدان. أية أسطورةٍ يمكن أن تُسطَّر في مزبلة، وأي قصيدة يحتمل هكذا ساح وغى؟



9
على شرفة جدّي تلتقي وجيهة بأبي منصور، سنون فرقت، وها هم يلتقيان، يصافحان بعضهما بحرارة. تتحدث وجيهة عن الوجبة الذي نسيتها في الفرن ويتحدث أبو منصور عن العمار لابنه علاء… ويأخذهما الحديث.

 10

في معركتها السابقة كان عدد المشاركين أقل بكثير. كانا اثنين، هي طرف والآخر ورم سراط الموت، والميدان مشافٍ بيض. قضى العدو نحبه.. شمِتَتْ وشرِبَت نخبه، ولم يبقَ إلا حنين المحارب للميدان، فانتهزت فرصة الاشتعال لتأخذ دورها، فتطوّعت للإسعاف. كانت رمزنا العائلي للإنتصار، وكنت أنا كالمراهقة، تقرأ القصائد أمام الشاعر الغامض فلا يأبه. كم أردتها أن تراني أحمل الحجارة في سيارة الإسعاف، أعوامًا قليلة بعد أن ربّتني، حين خرجت أختها، أمي، إلى سوق العمل.

 
في سيارة الإسعاف رأيتها لا تبتسم، لا تعبس. كمقدمة “الضريبة” هادئة. نظرات ثاقبة لا تراني، يا إلهي كم كان مظهري بكوفية وحجارة كليشيهًا بائسًا لا يراه الثاقبون.




11

يفرغ جدّي مخزون صلابة يوفره منذ يوم الأرض. يوزع الأوامر لمن لا يسمعون ويشتم ابنه الصحفي الذي يتكلم للإذاعة: “وقت الحكي الفاظي إسا؟ جيل خِمِع.”


إلى شرفة بيته المطلّة على “البركة” والملّ البعيد يعود ليجلس مع صديقه ووجيهة ليراقبوا ما يحدث. على يمين جدي ويساري، من يتشاركان الحديث، من يتشاركان القلق المطل على ساحة المعركة… وسيتشاركان التسمية.


12

يركضون إلى الخلف، كلهم معًا، يحجب نظري الزيتونُ فأتابع التقدم إلى أن يدفعني من لا أعرفهم إلى الخلف: “إرجع بقلّك!” من الأخضر الشاهق نزل الجنود الثلاثة فركضتُ كما ركض الجميع، وسمعت كما سمع الجميع صوتَ العيارات النارية: قاتل قريب مرعب دافئ.


ركضت كثيرًا، ركضت كثيرًا إلى أن انتبهت أنني وحدي بعيدًا عن ساحة الأحداث، توقفت للحظة ثم عدت أدراجي إلى المتجمهرين والمتظاهرين، إلا أنهم كانوا في طريق عودتهم من الملّ. كانت العيون تقول كل شيء.. والهتافات تجيب على الأسئلة.


13

سارت المسيرة نحو “الحريقة”، ركضت نحو بيت جدّي. جدتي لا تزال تجلس في المطبخ وحيدة، تسأل عن اختها وجيهة. “وَلا مالها خالتك هيك نزلت تركض وتزعق؟ شو في؟” أجبتُ: “أبصر شو سامعة عن حدا منصاب، كلها الشباب بتنصاب.. عادي..مطاط..” ثم بدأت أراجع صراخ الشبّان العائدين، فتفحصت عنقي بكفة يدي اليسرى.. وباليمنى صددت ضربة القلق.




14

اتصلت أخت جدتي الشابة بزوجها القيادي تصرخ: “خلص.. إرجعوا.. خلص.. كل إشي خلص.. راح.. كلشي انتهى..خلص.”




15
الشرفة لم تعد تطلّ على الاشتباك، لم تعد تطلّ إلا على الدخان الأسود المهجور والحجارة الراكدة في سماء الملّ. جدّي يجلس وحيدًا، الكرسيان على يساره ويمينه خاليان: “اتصلت خالتك من المستشفى، ابن أبي منصور استشهد، وأسيل ابن وجيهة مخطر بالسْبيطار، تقلش لستك.”



16

أغلق الحارسان مدخل قسم العلاج المكثف في مستشفى نهاريا أمام المئات، أم أسيل وأبو أسيل في الداخل نراهما عبر الزجاج، الليل لا يُبدل موعده نظرًا للأحداث فيهبط. في الهواء تقفز أم أسيل لاطمةً وتسقط أرضًا.



“لا تبكوا… زغردوا… لا تبكوا.. ببكوش عَ الشهيد.. ببكوش عَ الشهيد.. زغردوا.. زغردوا”، يقول أبي، وينفجر بالبكاء.


17

سيارة خضراء تشقّ الليل، النوافذ مغلقة، عالمٌ خارجها وداخلها انهياره. أبي يقود السيارة، إلى جانبه بائع الكتب الصديق الذي وصل المستشفى مثل غيره، أنا في الخلف، وإلى جانبي جثتان لحُلم وقد تركتا جثة ابنٍ خلفهما، ليشقّا الليل.
أبو أسيل وأمّه، خالتي وجيهة التي لم أعرف قبل الآن أن اسمها الأصلي “جميلة”، يجلسان جانبي في السيارة المسرعة القديمة.. السيارة ترتجف من سرعتها. نحن نرتجف من فقدان سيطرتنا على وجبة الجبروت القاتلة. صخب الموت أشدّ وطأة حين ينحصر في سيارة صغيرة مُغلقة، تنطلق نحو “بيت الشَهيد.”






18

حواجز الشرطة تسدّ مداخل القرى العربية، الحواجز تمنعنا من الوصول إلى عرابة. جنون يفجر كمينًا في الأبوين حين يشاهدان رجالًا مسلحين بالأزرق، فيهبّون للقتال. يتوسّلهم أبي البقاء فينزل لمقارعة الضابط لفتح الحاجز.



الخيالُ خيالي: أية مجزرة ستقع الآن إن نزلت “وجيهة”، خالتي المدخنة بعصبيّة، لتواجه قتلة ابنها، بعد دقائق على إعلان الوفاة. أية صور دامية وأيّ رعبٍ رأيتُ.. واحتمال تحقق الرؤية واحدٌ جدي: زر الأمان الذي يقفل الباب.. كان مفتوحًا.




19
نعبر الحاجز.. نصل سخنين لنقطعها وندخل عرّابة. الطريق الآن مغلق بالمتاريس المشتعلة والحجارة والشبّان على طرفي الشارع، بين أشجار الزيتون ينتظرون أيّ كائن متحرك لينقضوا. أخرج جسمي ورأسي من الشُباك وأغرس لساني بلهجة القرية: “أهل شهيد.. لا إله إلا الله.. أهل شهيد.. تظربوش.. أهل شهيد.”


يوقفنا ويتقدم إلينا شاب ملثم، أقفز من السيارة وأتقدم نحوه. “إطفوا الظيّات وامشوا عَ مهلكو.. السيارة المسرعة بتنضرب.” سيارة فقدت لونها، تشقّ الليل بهدوء، فنغرق فيه.


20
يمسك بكتفي ويجرني إلى خارج الألوف اللذين أتوا للتشظي. الليل يطلّ على فجره. “تعال أروّحك على البيت تتريح أكم ساعة، الأيام الجاي مش هوينة”- قال أبي.. كان متفائلا.


21
بعد أن صمتت الأغاني، أطفأتُ الراديو وسحبت الطرّاحة –الفرشة الصغيرة التي نمت عليها حتى سن الخامسة- وفتحتُ الشباك. نمتُ على الأرض تحت سرير والديّ الذي نام عليه أبي. وفي نهاية هذا الليل، راجعت الأحداث من البداية.





كان الانكسار سبب جرفٍ لا يخيرك بين الوقوع والتمسّك بالطريق. كانت العيون أغرب عن نفسها التي انفجرت ليبزغ ما نخبئ من جمال الانهيار على المذبح. أما حين انغمسنا بعد الجرف في الكذبة، في اللجان وفي القضاء وبذخ المنتفعون في الكلام، التفاصيل المسطحة، والتحوّلات التائهة عن فحوى الدم.. يصبح تلخيص الحقيقة والحق عدوَّ المجاز، ويصبح تلخيصنا للحوادث أصدق حين نجرد عنّا شِباك الكلام.



يتردد صوت الخالة الشابة: “خلص.. إرجعوا.. خلص.. كل إشي خلص.. راح.. كلشي انتهى.. خلص.”






(حيفا)






شكرًا...يا بحبك

هناك تعليق واحد:

  1. روعه مدهل كلمات اعادتني الى تلك الايام سرد الاحداث جميل جدا تخيلت وكان الحدث يدور الان ......لن نرحم ولن ننسى ستبقى دكرى ابديه لا تزول حتى النصر والتحرير

    ردحذف