القول الفصل

القول الفصل

الأحد، 17 يناير 2010

هكذا ثبَّتنا الزوال...


صمتٌ، يزخرفه وقع خطى خفيفة.. وحفيف المتحدثين خارج المنزل. الكلام ليس مباح. وحده البكاء الآن محلل، ووحده العويل مباح وقادر على استثمار ما في الموت من امكانات، وحده البكاء من هو قادر على استثمار خيبتنا.

نحدق بالفقدان ونرسم بأعيننا لبعضنا خطةً للقضاء على استثنائية الحالة والموقف. يتناثر الموت في باحة المنزل. ساعات بعد الموت نكتشف أننا كنا بعيدين عن هؤلاء الذين كانوا هنا، ولم نأملهم، كنا مشغولين بما هو أكبر وأعظم. كأن كلبة المنزل هي وحدها، من بين كل المجتمعين أمام البيت المفجوع، من كانت هنا تهرول ويلتف ذيلها حول التفاصيل اليومية لأناسٍ عاشوا في القصة المجاورة لقصتنا. وحده الموت يلملم روابط القصص ببعضها، يجمعها كما يجمع الشبّانُ، في باحة المنزل، ورقَ الدالية الشاحب والمتساقط، من هول الحالة... وكانون الثاني.

قمرٌ على من يهيئون المكان المظلم بتدابير الوداع. قمرٌ على مقابرٍ تستعد لإستقبال القادمين الجدد إلى وطنٍ غريبٍ عن الضوء، عن صفوة الصداقات وتعب الوالدة.

المقابر تستعد لبحرٍ من الصامتين الذي يعدّون خطاياهم ويودّعون من توقفوا عن الخطيئة.

ينحصر امتداد الدقائق بين اصابع اليد الخمسة: وقت تحوّل المنزل وباحته من مسرحٍ لرقص الصاعقة لبيت عزاءٍ مكتمل الصفات. كراسٍ بلاستيكية، وقهوة مُرَّة لاذعة وسواد ملابس المعزّين. هكذا تعرف ان الموت قد ثُبِّت بشكلٍ شبه رسمي، فحين يصعق الموت العفوي لا يكون للمرء متسع لتبديل الملابس الملونة بالسواد ولا أن يبدل عفوية النهار بإستيعاب حقيقة الزوال. وما نستوعب؟

التدخين، أيضًا كالعويل، مُباح. يصبح تبادل السجائر دون كلام مهنة الجميع، الكبار والصغار. تدخّن لأنه ليس هناك ما تقول او تفعل، وتدخّن مع أنك تكره السجائر ورائحتها. تدخن لتبدد بالدخان رائحة الموت الصلبة برائحة أخرى نكرهها... فالروائح الطيبة لا مكان لها في حضرة الزوال.

تتوغل الساعات بالليل، يقل الصراخ فيكثر الناس... يلاقي الكلام سبيل تسلله بين المراهقين الحاضرين وبين الكبار الذين يأنخون للتداول في مراسيم تثبيت النهاية. يعلو الجهور من أكبرهم فيفصل فصلًا موجعًا بقضم غصّته عبر عمليّة المتمرس ومهنيته. يوزّع الأوامر على الأصغر منه سنًا: أنتَ لورقة النعي وأنت للقهوة، أنت لإبلاغ الكنيسة وانت لغسل الموتى. يوزّع أوامر النسيان، يوزّع أوامر تطبيق الموت بحذافير عادته. ويطلق رحلة النسيان. يعبث بالعاصفة ويعبث بطعم الصدمة الأولى الأشد. يعبث بصمتنا، لأن الصمت عنوان التأمل بالإياب إلى الحقيقة، وما يعادلها من أسئلة مطلقة.

في الموت، يكبر الصغار. يصبح حديث المراهقين اكثر جديّةً واكثر نضوجًا؛ حين يشعرون بأن النهاية تقترب، ربما، يلهثون وراء البلوغ لئلا يفوتهم المشهد الذاتي في أوج الوقار.

في هذا المنزل، من لا يعرفون الآن أن الفجر سيبزغ آخر هذه الليلة أيضًا. في هذا المنزل هناك من يظن بان هذا الليل هو الأخير وليس بعده من صباح... فصباحهم كان وداع الراحلين الى ضوضاء النهار؛ وذاك الوداع يحمل فيه حتمية العودة عند المساء، دونها لا يكون ذاته الوداع... لا يكونُ وداعًا صباحيًا بل وداعًا ساحقًا قاطعًا. ولا صباح دون وداعه... بل دوام الليل.

في هذا المنزل من ينسون الآن أنهم بعد أشهر، سيجدون سببًا آخرًا للصباح. إلا أنهم حتى تلكم الساعة، لن يشربوا القهوة الصباحية ولن يقولوا: "مر الوقت سريعًا."

هكذا نودّع اللذين صاروا يعرفون. نرى نفسنا أمواتا فنخمن؛ من سيأتي أولًا؟ من الرجل الأول الذي سيبدأ توزيع الأوامر والعمل؟ من سيبكينا وما سيقول أبي؟ وكيف ستستجيب تلك التي أُحب ولم تطاوعني برسم الغيم فوق حديثنا. هل ستندم؟ هل ستقول، حين يذكرني الجميع بالخير: "كان يحبني ورفضت"؟ هل سيدخن اخي الصغير؟ وماذا سيفعلون بغرفتي بعد أن اوصدت بابها لي ولم توصده للزوار؟

حين يفرض الموت نفسه، يصبح البيت مباحًا للجميع. الناس تروح وتأتي، يفعلون في المنزل وباحته ما يريدون... يغيّرون موقع الكلبة لئلا تزعج المعزّين، يقصون أجزاءً من الدالية، تملأ الثلاجة بالماءِ ويبحثون عن أي شيء، لمسح الدموع. يفقد كل ما في البيت أهميّته. ما عاد يهمهم ترتيب الجلوس، ما عاد يهمهم خصوصية غرفة الوالدين. وما يهمّنا حين نعرف أن خسارة الأشياء كلها أقرب مما كنّا نظن وأكثر حبًا لإستطلاع خصوصيتنا من أي شيء آخر؟ ما يهمّنا حين نعرف أن فعل الخسارة المطلقة يحوم حولنا، عبر ملابسنا الداخلية وأنفنا وهاتفنا الخليوي وساعة اليد؟ ما فائدة الإهتمام بالأشياء حين تزول أمامنا كما تزول الشُهُب؟

غدًا الجنازة؛ موعد تثبيت الموت رسميًا... غدًا سترقص باحة الكنيسة على عويل النساء. غدًا، سيُعجب الرب بصديقٍ يسند والد الراحلين، ولن يطالب أحدًا بفاتورة العلاقات العابرة والخطايا... سيكون مشغولًا بنميمة الموتى عن الجيران الجدد الذين سيقطنون حيّهم:
من أين هم؟. سيسألون
-حيفا. يُجيب.
-متزوجان؟
-مخطوبان.
-وهل يحملون معهم أخبارًا عن العالم الآخر؟
-كفّوا عن المحاولة، لن تعرفوا شيئا عن عالم ما قبل الموت.
-لماذا؟ لماذا لا تخبرنا عن ما يدور هناك، عن تفاصيل الحياة وأي قصص تصير هناك؟
-القصص هناك لا نهائية...
-ألسنا نحن اللانهائيين؟
-نعم، لكن قصصكم إنتهت.

قصصنا لا نهائية، وحين تنتهي، نكون نحن قد وصلنا اللانهاية، قد وصلنا الأبد. نحن اللذين نموت، نعرف أن هناك شعاع سيحملنا على نبءٍ إلى ما لسنا نعرف.

حين تترك من فقدت هناك في المقبرة، تشتعل فيك أغنية للثابتين في مكانهم. فثباتهم ههنا يوصي بفقدان ثقتهم بالأمكنة والأزمنة. يبدل حاجتهم للإقتراب والإبتعاد من الحدود عن الحدود.

نحن لا نموت. نحن نفقد رغبتنا بمواصلة اللهو في ضيق الحيّز. نحن لا نموت. نحن نفقد رغبتنا بالخبز والرقص. نحن لا نموت. نحن نفقد رغبتنا بتقويم الخيال. نحن لا نموت. نحن نفقد رغبتنا بالنمو عبثًا. نحن لا نموت. نحن نفقد رغبتنا بدوافع الذات. نحن لا نموت. نحن ننهي الأغاني ونمتلأ بما يكفينا من أسرار.

مجد
18 كانون ثاني.
حيفا.




وهذه رقصتي للموت
شمس- محسن نمجو



Mohsen Namjoo-Shams محسن نمجو-شمس | Music Upload

هناك 6 تعليقات:

  1. ... عندما لا يبقى لك منك شيء. عندها فقط.. تحصل عل كل شيىء.

    ردحذف
  2. عبقري مجد!!

    ردحذف
  3. مؤلم نصك وجميل مثلك
    عبقري كعادتك

    حبيت كثير مقطع: "غدًا، سيُعجب الرب.....نعم، لكن قصصكم إنتهت."

    ردحذف
  4. معاينة

    تحرير
    ابو المجد يقول...
    ابوك يقول أنْ لا موت في الموت ومن الفتحه على الميم تنبت الحياهفلا مل بل امل..ففي اغاني الموت لحنًً يثبت على نوتاته لاعب المزمار لونغاالخلودوالمجد.. فاين زوال الانبياء ..اين زوال الحكماء واين زوال الشعراء ..اشربوا نخب الحياهولنترك الزوال للزوال احبك بحجم عشقك للقلم وللنبيذ

    19 يناير، 2010 9:29 م

    إضافة صورة إلى الملف الشخصي

    ردحذف
  5. "غدًا، سيُعجب الرب.....نعم، لكن قصصكم إنتهت."
    7beet bs mfhemthash

    ردحذف
  6. مجد كتاباتك قاتلة, رهيبة, عبقرية!
    برجع على بعض الجمل مرة ومرتين وثلاثة.. وبصفُن بقدراتك الرائعة على الكتابة...

    ونحن لا نموت!
    سلامات :)

    ردحذف