القول الفصل

القول الفصل

الأربعاء، 1 ديسمبر 2010

ملاحظات حول مسيرة التضامن مع "مسيحيي العراق"



باركتنا الكنائس الحيفاوية قبل أسبوع بمسيرة شموع وصلاة تضامنًا مع "مسيحيي العراق" بعد الهجوم الإرهابي على كنيسة "سيدة النجاة" الذي راح ضحيّته عشرات الشهداء. وعن ما تحمله المسيرة من مضمون طائفي، كل ما سيقال غير كاف، إلا أن موقفًا يجب أن يُسجل في هذا الشأن.. فإن لم يكن التغيير، نكتفي بالاكتمال مع الذات.

لا حاجة للتعمق في المفهوم ضمنًا في هذا السياق؛ منذ بداية الغزو الأمريكي للعراق، يُقتل العشرات والمئات يوميًا. فقد توقّف العراق عن عد شهدائه الذين يقدرون بمئات الآلاف. فلا حاجة، إذن،  للتعمق في توضيح الادعاء بأن الفعل السياسي الذي يتجاهل مئات آلاف الشهداء وينظر إلى عشرات الشهداء فقط بسبب هويتهم الدينية، لا يترك مجالا للشك في أن خلفية هذا التحرك السياسي هي خلفية طائفية.

ولئلا نُفهم بشكلٍ خاطئ فمشكلتنا ليست في أن نحتج على استشهاد "عدد قليل"، بالعكس، من الواجب أن نحتج على استشهاد كل شخص باسمه وعينه يُقتل في العراق، ليس الموضوع موضوع عدد، إنما موضوع اقتصار الاحتجاج على قتل من ينتمي إلى هوية طائفية معينة.

أمور أكثر تفصيًلا ومفصلية تستدعي التوقف عندها، وبالتالي تستدعي قدرًا أكبر من الوضوح والصراحة.

أولًا، في الخطابات التي ألقيت في المسيرة لم يكن أي ذكر لاحتلال العراق.  فيكتفي هذا المطران بتسميتها "الحرب الغريبة في العراق التي انتهت باضطهاد واضح ضد المسيحيين" ويتحدث ذلك المطران عن "المذبحة التي تُرتكب منذ سنوات بحق المسيحيين..." كأن الاحتلال ليس قائمًا في العراق.. كأن الأمريكي لم يدخل العراق يومًا وكأن هذه المذابح والجرائم التي ترتكب منذ الـ2003 لم تبدأ عند أول قصفٍ أمريكي على العراق.

ويقتبس "أبونا" من إنجيل يوحنا: "سيُخرجونكم من المجامع بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله." إذًا، فالحرب بين من "يظنون أنهم في خدمة الله" ومن "يخدمون الله فعلًا"... حرب عقائد؟ لا مخطط لتفكيك العراق؟ لا مخطط لتحطيم عروبة العراق وتكوينه كأمّة؟ ليست حربًا مفتعلة لتحويل العراق إلى مجموعة طوائف وعشائر متفرقة لها أول دون آخر؟ هكذا ببساطة تعرف الكنيسة المشروع الأمريكي في العراق؟

لا يمكن إقناعنا بأن المطارنة ورجال الدين في حيفا لم يسمعوا عن الغزو الأمريكي، إذن فعلينا أن نبحث عن الأسباب الأخرى التي تقف وراء تصرفاتهم وتصريحاتهم... أهو الخوف؟ أم المصالح المادية؟ أم الحاجة الدائمة لتأجيج الطائفية الذي يعتاش عليه معظم رجال الدين من كل الدينات؟

المخطط الأمريكي في العراق واضح كعين الشمس، وأهدافه أوضح... ومن لا يراها توفّر له الكنيسة نموذجًا مصغرًا عنها؛ مسيرة الشموع هذه ليست إلا تكريسًا صغيرًا للمشروع الغربي في العراق، ليست إلا تكريسًا للغة الطائفية وخطابها، وتكريسًا لتقسيم الشعب العربي العراقي، وعزل مجموعة دينية عن بيئتها الطبيعية في المجتمع العراقي المتكامل، وأن يولى الانتماء الديني على الانتماء الوطني والقومي. وبالرغم من كون المسيرة "نموذجًا صغيرًا"، إلا أن رسالتها تبدو كبيرة على أهالي مدينتنا الصغيرة.


ثانيًا، من حقنا، بما أننا نتحدث بلغة طرح قومي ووطني، أن نتساءل كيف يمكن لممثلين عن حزب التجمع الوطني، قوميين علمانيين – بحسب برنامج حزبهم- أن يسيروا في مقدمة مسيرة مثل هذه المسيرة الطائفية؟

وكيف يمكن لقيادات "الحزب الشيوعي الإسرائيلي العريق" أن  ترمي بكل ما تعرفه عن الشيوعية والعلمانية، وأن يرمي "البُلشفي" معتقداته ويبعثر التاريخ ويمشي في مقدمة مسيرة طائفية ذات هوية طائفية؟ خاصةً وأن الحزب الشيوعي معروف بأنه لا يشارك في أي مناسبة إن لم يكن من المنظمين ولم يشارك في "تحديد الشعارات" والساعة والمكان، ولطالما أفشل فعاليات سياسية لهذا السبب.

عذرًا.. عذرًا على الخطأ.. لم تمش القيادات المحلية للجبهة والتجمع في مقدمة المسيرة.. مشوا في الصف الثاني.. خلف رجال الدين. سحقًا لتعاليم العلمانية إن أتت من قيادات تهرول خلف برنس المطران وعمامة الشيخ!

حضور " الشيخ" في مقدمة المسيرة ليس إلا تكملة للصورة، زيادة إكسسوارات، ولولا معرفة منظمي الكنيسة وإحساسهم بطائفية ما ينظمون، لما احتاجوا إلى إبراز الشيخ في مقدمة المسيرة والعناوين والخطابات، فمثلما قال زياد الرحباني: "ما دام كلكم أخوة، شو في لزوم تضلكوا تقولوها؟".. هذا "اللزوم" بأن نقول دائمًا أننا لسنا طائفيين، يدل على الكثير. وإن كان التسامح والتعايش والمحبة فعلًا كما تدعي الصورة والخطاب، فلماذا لم يأت الشيخ مع مئات المصلين الذين يهبّون سنويًا لمهرجان "الأقصى في خطر"؟

ولكن هذا الشيخ أتى وشارك، لماذا؟ من المنطلقات ذاتها... لأن "التسامح بين الديانات" يبقي على مفهوم وجود صراع بينهم، فمن لا يتصارع ليس بحاجة لتسامح، ولأن هذا الشيخ، مثله مثل أغلبية رجال الدين المسلمين والمسيحيين والدروز وغيرهم، الذين يعيشون على تأجيج الطائفية لحشد أبناء الطائفة وإعادتهم إلى الحلقات الدينية المتحجرة، فإن لم يحشدهم ولم يعودوا إلى المسجد أو إلى الكنيسة، سيفقد مكانته بالضرورة.

رابعًا، أسمع حديثًا وتبريرًا من بعض الأخوة للمسيرة، وفي سياقه يدور الحديث عن "مشروع تهجير المسيحيين من الشرق الأوسط"... أستغرب ظهور هذا المشروع فجأة بعد الهجوم على "كنيسة السيدة". أين كان يختبئ هذا المشروع قبل الاحتلال الأمريكي للعراق؟

يقول أحد المتحدثين في المسيرة عن القديس بولس أنه "إن مرض عضو في الجسم، يمرض الجسم كله." وإن كانت المسيرة ردًا على "مشروع لتهجير المسيحيين من الشرق"، فمن المفترض أن ينتمي من نظم المسيرة إلى الشرق ويلتصق به ويكون جزءًا منه، جزءًا من هذا الجسم... لنسأل، أين كانت هذه الغيرة والتمسك بالشرق حين مرض عضو في الجسم، حين مرض العراق، ومرض جنوب لبنان، ومرضت غزة، لماذا لم يتألم الجسم ولم تخرج الكنيسة للتظاهر؟ ولا نريدها أن تخرج، لا في مجزرة غزة ولا مجزرة "كنيسة السيدة"، فوظيفة الكنيسة الإيمان وليس السياسة.

الخلاصة؛ فشلنا مرة أخرى في امتحان العلمانية. والفشل لا يقتصر على تسييس الدين، إنما لأن الكنيسة أصبحت فاعلًا سياسيًا تسير وراءه "جحافل" العلمانيين، وسقط مجتمعنا بين أشكال مختلفة لإثارة الغثيان؛ بين طائفية أجمل او طائفية أقبح، ولكن الطائفية هي ذاتها: أن يصبح الإيمان الديني مؤسسة اجتماعية سياسية تجعل من أبناء الشعب الواحد "آخر وأخرى" وتنظمنا وتوحدنا على الأسس الدينية الغيبية المتحجرة بدلًا من أن تنظمنا وتوحدنا على الأسس الحديثة المتنورة. فما علينا إلا أن نعيد الأقنعة ونمثل دور "التعايش" والـ"فش طائفية" الاقنعة التي سرعان ما تسقط في المواقف الحرجة. 

(حيفا)

هناك 8 تعليقات:

  1. مجد بحييك على اللي كتبتو.. وفي عندي ملاحظه:
    بما انك بنهاية المقال ذكرت انو احنا منلبس اقنعه ومنمثل دور التعايش معناها منيح الانسان يسمي الاشيا بمسمياتها يعني شئنا ام ابينا هنالك في اضطهاد متعمد من المسلمين للمسيحيين بالذات في العراق ومصر وحتى عنا في كل بلد في ديانه مستهدفه مش بس المسيحيه على وجه الخصوص.. عشان هيك كل لازم كل عربي مسلم او مسيحي يستنكر هذا الاشي من "غيرتو على قوميتو" اذا كان هيك اشي موجود.. المجازر والمذابح اللي بتصير بحق اي شعب عربي مستنكره بس كمان العنصريه ضد المسيحيين لازم تكون مستنكره..(خاصة لما بتكون من ابن جلدتك) الناس عم بتحول نطاق الجدال لتمييز لصالح المسيحيين على حساب اللي بموتو بغزه ولبنان وهدا الاشي غلط !

    ردحذف
  2. مش مختلفين يا رفيقة، بعرفش شو تعريف الاضطهاد، بس مش مختلفين انه الاسلام بالشرق محترفين لعنجهية الاكثرية وعنجهية القوي، ومش مختلفين انه في قمع وفي طائفية، وفي كره وفي مشروع إسلامي أخو معفنة بالبلد.. مش مختلفين.. بس أولًا أنا مش مجبور كل مَ بدي أحكي كلمة على المسيحية أحكي كلمة قبالها على الإسلام عشان أبرر حالي.. مفش عندي هاي العقد الطائفية الي موجودة عند الناس الي بدهن يكونوا دايمًا متوازنين.
    وثانيًا، مزبوط انه بالشرق في مسيحيين مضطهدين، وإسلاميين قامعين.. (وانا بديش اسا أقعد زي هذول المتخلفين الي بقعدوا يحكولك تاريخ وعن المسيحيين بالشرق وعن المسيحيين الي كانوا بجيش صلاح الدين وكل الحكي الي بالرغم من انه جزء منه مزبوط، بس أغلبه فارغ المضمون) بس الشغلة الثانية هي كالتالي:
    الدولة الوطنية -دولة الأمة- هي الحل الوحيد للاضطهاد والطائفية. ان الدولة تصير دولة وطنية فيها المواطن متساوي أمام الدولة ومش أمام اشي ثاني، لا العشائر الحاكمة ولا الطوائف الحاكمة، وأن الدولة هي الوحيدة صاحبت الحق بإستعمال القوة، هيك بتبطل الطائفية تأدي لجرائم ومجازر.. ومع الوقت بتتلاشى عن السطح.. بس بالشرق فش دُوَل.. في زبايل.. مصر دولة مواطنين سياديّة؟ الاردن دولة مواطنين سياديّة؟ المغرب؟ السعودية؟ كلهن أنصاف دُول.. وعشان هيك فيهن أنصاف مجازر.. بالعراق انتهت الدولة نهائيًا، والمجازر عم بتبين..كاملة .. وواضحة.. مواجهة الاضطهاد الطائفي بالشرق مواجهة قومية، بتشدد على ان العروبة الديمقراطية هي مقياس الانسان امام المجموعة، ومش طائفته وعيلته.

    الله يرحمك خيّا راجي ;)

    ردحذف
  3. ابراهيم المدهون - غزة1 ديسمبر 2010 في 11:29 م

    العقلية العربية لا تستوعب المدنية الحديثة وستجرك دائما الى الطائفية والانغلاق والتمركز نحو الذات، اننا نحتاج الى تغيير اجيال ليتم انضاج علمانية تقوم على الوطن والقومية والثقافة الغير متمزمتة.
    والتزمت لا يقتصر على دين دون الاخر وعلى طائفة دون الاخرى، كل من يدعوا لسحق الاخر متزمت سيء يقوي التخلف والفقر والفوضى.

    ان التفاتتك الى هذه المسيرة وتسليط الضوء على هذا الفكر المتحيز ومحاولة تشريح المشكلة هو عمل ايجابي في طريق هدم موروث يثقلنا الى التخلف

    ردحذف
  4. انا معجبة بهاي المقالة!!
    يعطيك العافية
    هُزام هردل

    ردحذف
  5. هلا خالي هلا
    صُب سادة للغُربيّة

    ردحذف
  6. I love this and I love you....bejanen:**

    ردحذف
  7. مقال جيّد وتحليل صحيح ومهم! والمهم به هو الثقة بالنفس وبالطرح القومي العلماني الواضح والغير متملّق والذي نحن بأمس الحاجة اليه لمعالجة أمراض الأنقسام والطائفية والفئوية على كل أشكالها التي تنهش وتفكك عالمنا العربي وتضعفنا.
    استمر في الكتابة فنحن بأمس الحاجة الى كتابة نقديّة ناضجة وجريئة.

    ردحذف
  8. مقال مهم وشجاع (وليس بمفاهيم صبوا القهوة للعُربان ويا ميمة جنب الخيمة،وانما لأنه يخوض في موضوع بقي في عداد المحرمات الى هذا اليوم، وأقصد اتخاذ موضوع العداء ضد المسيحيين في بعض الدول ذريعة للانعزالية لدى البعض وللتقرّب من الدولة لدى البعض الآخر (وليس الجميع)وللعزوف عن محاولة تقاسم الهم الفلسطيني مع جميع الفلسطينيين (لدى البعض وليس الجميع).

    ردحذف