الرسالة الخامسة إلى ويليام
عزيزي ويليام،
حلمت الليلة بأننا كنّا على ظهر صقرٍ برأس أرنب يحلّق فوق حارتنا.
كانت السماء مرتبة كأنها تجهّز نفسها للانتقال إلى أرضٍ جديدة، الغيوم مطويّة وملفوفة بالسيلوفان، والنجوم في صناديق كرتونيّة مغلقة، أما الشمس فقد كانت ملقاة فوق أكوام الصناديق ورزم السحاب، كان الحمّالين من الملائكة يمسحون عرقهم بأجنحتهم المسودّة وهم ينجزون الشغل.
حين حلّ ما حلّ، رأيتك تضع الأوراق بيدي وتدفعني عن ظهر الصقر لأسقط نحو بيتنا المظلم. لولا أوراقك التي حوّلتها مظلّة، لما بقيت على "قيد الحياة"، لولا الرسائل لتشظّى جسدي في ساحة البيت، لولاها لما كُنت.
هكذا اعطتني الرسائل عمري الجديد.
إن هذه الرسائل يا ويليام هي كلّ شيء: حين أحيتني، كنت طفلاً أكتب لكَ بشغف وشغب، دون أن أعرف أي شيء، دون أن أنوي أي شيء. أما الآن وقد ثبت الضوء على انتظار الرسائل، فإنه يلح من خلف نوافذنا المغلقة بالسؤال عن حالك، ويطلب أجوبة مفصلة مجردة من التجريد، واضحة، صافية، وافية.
كنت في البداية أكتب لك رغمًا عنّي، ثم انطلقت مثلما انطلقت أنت في ذاك اليوم على دراجتك الهوائية تجوب شوارع القرية دون أن تخاف من أيّ شيء، دون أن تفكّر بأي شرط أو خوف أو نيّة. كان المسرح الجوال يزور قريتنا لأول مرّة، وكنت تحلق مثل صقر لطيف، برأس أرنب، حول ساحة القرية.
كنت في حينها ألأمل الذي ينقذ أمك، تركض هي خلفك، لا لتعيدك إلى البيت، بل لتسترق النظر إلى خشبة المسرح، إلى الستائر، إلى أجهزة الصوت، إلى ملابس المسرح. هل تذكر هذا اليوم؟ إنه أثقل من أي يومٍ آخر.
دخلت أمك إلى الغرفة، تعرّت، وناولتني رزمةً من الأوراق. كان السواد يلف عينيها، لم تكن قد نامت منذ وصل المسرح إلى القرية، وكنت سأحب المسرح من أجلها، لكنها استدارت وتركت الغرفة وهي عارية، وخفت أن أخرج لأراقبها إلى أين ذهبت.
ثم وصل الليل، والليل حين يصل، يصدر أصواتًا عالية.
ثم يكبر الإنسان، ثم تزداد الرسائل، ويسأل ضوء القرية عن أسرار بيتنا، يسأل عن قصةٍ واضحة. إنني في هذه الرسائل، اليوم يا ويليام، مثل شاب يُقبل على العشرينيات يقول لنفسه: حسنًا، أنتهى وقت المزاح، أنتهى وقت العبث، عليّ أن أخطط الآن، ما الذي سأفعله؟ كيف سأستمر؟ على الأشياء أن تكون مرتبة، واضحة، متماسكة، إن القرية تريد منّي تصورًا واضحًا لمستقبلٍ سيكون على الأرجح ضبابي المزاج، إن القرية يا ويليام تكره التجريد، إن القرية تحبّ الرسائل الواضحة.
لقد نصبت لي فخًا يا ويليام، إنها خباثتك الرقيقة، مثل دائمًا. لا بأس يا ويليام، لا بأس. لست أنا من يهرب من الكمائن يا عزيزي، هل نسيت بأني ابن الحروب الثلاثة؟ سأستمر بالكتابة لك، سأدعك تنتقم انتقامك اللذيذ. بالفعل، لقد كانت غلطتي، وها أنت تعتصر مني الحساب. سأكتب يا ويليام، ومثلما استحضرتك إلى الحياة، لكَ أن توظّب من هذه الرسائل مشنقةً لتأرجحي: أن تلدني من جديد.
كيزمير ماليفيتش |
عزيزي ويليام،
حلمت الليلة بأننا كنّا على ظهر صقرٍ برأس أرنب يحلّق فوق حارتنا.
كانت السماء مرتبة كأنها تجهّز نفسها للانتقال إلى أرضٍ جديدة، الغيوم مطويّة وملفوفة بالسيلوفان، والنجوم في صناديق كرتونيّة مغلقة، أما الشمس فقد كانت ملقاة فوق أكوام الصناديق ورزم السحاب، كان الحمّالين من الملائكة يمسحون عرقهم بأجنحتهم المسودّة وهم ينجزون الشغل.
حين حلّ ما حلّ، رأيتك تضع الأوراق بيدي وتدفعني عن ظهر الصقر لأسقط نحو بيتنا المظلم. لولا أوراقك التي حوّلتها مظلّة، لما بقيت على "قيد الحياة"، لولا الرسائل لتشظّى جسدي في ساحة البيت، لولاها لما كُنت.
هكذا اعطتني الرسائل عمري الجديد.
إن هذه الرسائل يا ويليام هي كلّ شيء: حين أحيتني، كنت طفلاً أكتب لكَ بشغف وشغب، دون أن أعرف أي شيء، دون أن أنوي أي شيء. أما الآن وقد ثبت الضوء على انتظار الرسائل، فإنه يلح من خلف نوافذنا المغلقة بالسؤال عن حالك، ويطلب أجوبة مفصلة مجردة من التجريد، واضحة، صافية، وافية.
كنت في البداية أكتب لك رغمًا عنّي، ثم انطلقت مثلما انطلقت أنت في ذاك اليوم على دراجتك الهوائية تجوب شوارع القرية دون أن تخاف من أيّ شيء، دون أن تفكّر بأي شرط أو خوف أو نيّة. كان المسرح الجوال يزور قريتنا لأول مرّة، وكنت تحلق مثل صقر لطيف، برأس أرنب، حول ساحة القرية.
كنت في حينها ألأمل الذي ينقذ أمك، تركض هي خلفك، لا لتعيدك إلى البيت، بل لتسترق النظر إلى خشبة المسرح، إلى الستائر، إلى أجهزة الصوت، إلى ملابس المسرح. هل تذكر هذا اليوم؟ إنه أثقل من أي يومٍ آخر.
دخلت أمك إلى الغرفة، تعرّت، وناولتني رزمةً من الأوراق. كان السواد يلف عينيها، لم تكن قد نامت منذ وصل المسرح إلى القرية، وكنت سأحب المسرح من أجلها، لكنها استدارت وتركت الغرفة وهي عارية، وخفت أن أخرج لأراقبها إلى أين ذهبت.
ثم وصل الليل، والليل حين يصل، يصدر أصواتًا عالية.
ثم يكبر الإنسان، ثم تزداد الرسائل، ويسأل ضوء القرية عن أسرار بيتنا، يسأل عن قصةٍ واضحة. إنني في هذه الرسائل، اليوم يا ويليام، مثل شاب يُقبل على العشرينيات يقول لنفسه: حسنًا، أنتهى وقت المزاح، أنتهى وقت العبث، عليّ أن أخطط الآن، ما الذي سأفعله؟ كيف سأستمر؟ على الأشياء أن تكون مرتبة، واضحة، متماسكة، إن القرية تريد منّي تصورًا واضحًا لمستقبلٍ سيكون على الأرجح ضبابي المزاج، إن القرية يا ويليام تكره التجريد، إن القرية تحبّ الرسائل الواضحة.
لقد نصبت لي فخًا يا ويليام، إنها خباثتك الرقيقة، مثل دائمًا. لا بأس يا ويليام، لا بأس. لست أنا من يهرب من الكمائن يا عزيزي، هل نسيت بأني ابن الحروب الثلاثة؟ سأستمر بالكتابة لك، سأدعك تنتقم انتقامك اللذيذ. بالفعل، لقد كانت غلطتي، وها أنت تعتصر مني الحساب. سأكتب يا ويليام، ومثلما استحضرتك إلى الحياة، لكَ أن توظّب من هذه الرسائل مشنقةً لتأرجحي: أن تلدني من جديد.
هل تعرف يا ويليام، إني أحبك، هل قلت لك هذا؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق