هذه آخر مرّةٍ أقول فيها أن السماء اليوم باءت
بالفشل. لديّ الآن ما يكفي من الحُزنِ لأقف أمام واحدةٍ من البقالات الفارغة التي
يفتحها مُلّاكها لتبييض الأموال. أحدق طويلًا في البائع داخلها، يجلس متدثّرًا
بمعطفٍ يحميه من الملل.
كلما نظرت للمرآة رأيت الرّماد يسيل من إطارها
الخشبي، مشهد من مشاهد قليلة لا زالت تبعث على الخوف منذ أتى الحرّاس بدلو
المبادئ. كانت الزنزانة الكبيرة مدهونةً بزيت السيّارات الممزوج بزيت الزّيتون،
الأرض والسقف وجحر الجرذ والسرير الاسمنتيّ، كلّها مدهونة بالزيت- نظّفها قالوا،
وسكبوا الماء الزلال من الدلو.
هل كانت التهمة تستحق هذا العقاب الأبدي؟ السماء
اليوم باءت بالفشل. لم تكن مرآة، كانت واجهة من واجهات شارع الخضر الذي كان
مزدهرًا بالمحال التجاريّة في أوّل ما نشأت المدينة، ثم تحوّل إلى شارعٍ مهجورٍ تصطفّ
فيه الدكاكين الخالية. كان البائع الشاب المهذّب يلبس نظّارةً ليرى زبائن لن
يدخلوا إليه، ويلف حول معصمه ساعةً ليحسب الزمان الذي يحتسبه.
التهمة أني نظرت إليه. كنت أبحث عن المدينة التي
أُبلغت عنها، ولم أجد فيها سواه، وكنت على قدرٍ كافٍ من الحُزن لأحدق فيه طويلًا.
لماذا كسرت الزجاج؟ يسألني المحقق، أقول أني لم أجد لي مكانًا في الشارع الأخضر
حتّى بحثت عن ثقبٍ في واجهةٍ زجاجيّة أمد منها جواز السفر ويوقّعونه لي حتى أدخل
إليهم، لكني وجدت يدي مهشمةً تنزف، وقبضتي لم تنبسط من هول الألم، لكنها قُسمت
شطرين، العظم تفسّخ مثل كوز الرمّان، وبثقل البَرَد نزفت الدمّ.
حين استيقظت وجدت المدينة تُعدُ الحقائب لتهاجر
قبل أن أنجح بالدخول إليها. كل المدينة الآن تجتمع في حانوت فارغٍ يملكه لتبييض
الأموال شخص مجهول يتحكّم في مصيرنا. كل المدينة الآن تجتمع لتصدّني، الأطفال
والنساء والشيخوخة والأحلام والفرح والمشي في شمس الظهيرة- كلها تهرع لتبني سورًا
يُبعدني عن مدينةٍ تُهاجر إلى دكانٍ فارغ. يجبلون الرماد بزيت السيّارات وزيت
الزيتون، ويبنون سورًا عظيمًا، جميلًا، مزهرًا، فرِحًا، يغطّي الشمس عنّي،
ويحترقون هم، في فرحٍ وحبّ، كيفما شاؤوا، بثبات ونبات، ويخلّفوا صبيانًا وبنات.