الأخ العزيز أبا نادر،
تحيّة وبعد،
مرة أخرى أقف أمامك، أطأطئ رأسي أمامك وتنظر أنت إليّ دون أي تعبير. حاجز زجاجي بيني وبينك، ضفتي سبع سنوات عجاف، وخضراء ضفتك كـ”ديلتا” النيل. إنما لا نيل في القدس.
تهادن كأنك تفسح لي مجالًا للاعتذار عن أخطائي التي لم أكن اعرف أنها أخطاء قبل أن أصل أرضك، لا تغذيني فقط، بل تعيد إرشادي إلى المفقود منّي، ذاك الذي أخفية لأصبح مقبولا في المحيط الآخر، حين أغيب عنك.
ترد السلام بمثله، لا أكثر، لا أقل. تمتشق سلاحك المعدني بيمناك، وترسك القمحي وتتأهب: “عادي؟” تسألني. “عادي” أجيب. وتبدأ… إلى أن يطفح الترس وتمد يدك، فوق الحاجز، لي، فأتناوله وأمضي.
أروي هذياني المدوَّن أعلاه أمامك.
فتسألني: “بعرظ الوالدة؟”
- لا أجيب.
- “كله رغيف فلافل، تعمليش قصة هلأ.” تقول لي.
- لا أجيب.
- ثم تسأل: “عادي الرغيف؟”.
- فأردّ: “عادي.”
العزيز أبا النادر،
زمن طويل مر منذ لقائنا الأول. لم يكن الجوع قد أنهكني بعد، أثناء عودتي من الجامعة إلى السكن الطلابي مرورًا بدكانك الصغير. إلا أن شيئا ما في نفسي، شيئًا سرياليًا يحاذي التجرّد الكوني (علمت لاحقًا أنه رائحة البطاطا المقلية) دفعني إليك بقوة، قلت في نفسي “لما أقاوم الغريزة؟” واندفعت نحوك… ثم أدمنت وأدمنت. وآن وقت العتاب.
أعيش حالات جلد ذات تصل إلى حد المازوخية، صرت أشك بكل أفعالي وكل أقوالي، أشكك بشجرة العائلة وأصبحت أشك في أن جد أمي هو من باع أراضي البلدة لليهود، بالرغم من أن أراضي البلد لم تُبع ولا تزال ملك العائلة. لا أعرف كيف استطعت أن ترمي بي إلى هذا الهذيان! لو رآني ديكارت لفهم أنه كان بعيدًا عن التطرف بالشك، نسبة لما أعانيه أنا الآن نتيجة تصرفاتك معي!
منذ اليوم الأول اعتبرتني غارقا في الخطيئة. كوّنت أفكارك المسبقة دون أن تعطني أي فرصة. دون أن تعود إليّ أو تسأل عنّي. لقد دخلت دكانك، وطلبت ما طلبت، ثم رمقتني بعينيك الجاحظتين، نظرت إلي باردًا دونما شعور ثم قلت: “كان لازم تنزَل لتحت.”
لم أفهم ما الذي كنت تقصده حين قلت “تحت”، وحين سألتك رفضت الإجابة. ثم سألت شباب الجامعة القدامى لاحقا عرفت أنك تعني دكان الفلافل الذي يحمل، بشكلٍ غريب، نفس الاسم في أوّل الشارع، الذي قال لي البعض أن مواقفه السياسية أقل ما يقال فيها أنها متصهينة، ويأكل عنده كل المحاضرين اليهود في الجامعة، ورجال الشرطة وحرس الحدود. هكذا إذًا! تطردني وتحسبني مع المتخاذلين المتأسرلين؟ أنا؟! حين ناديتني “خواجا” في المرة الثانية التي أكلت فيها في دكانك، حسبت أنها زلة لسان طبيعية وعابرة، لم أكن أعرف أنها تصنيفًا واتهاما موجعان، والآن حان الوقت لوضع النقاط على الحروف.
لماذا كل هذا الكره؟ كيف تتخذ موقفًا سياسيًا من شخص دون أن تختبره أو تناقشه؟ قلت لي إنك تمتحن الناس على طريقتك، ولكن بالله عليك! كل خطأي أنني طلبت نصف رغيف بدلًا من رغيف كامل، هل هذا كافٍ لاعتباري متواطئا خسيسًا بنظرك؟ ماذا يمكنني أن أفعل؟ أنا لا استطيع أن آكل رغيفًا كاملًا، خاصةً إن لم أكن على قدرٍ كافٍ من الجوع، ماذا بوسعي أن افعل؟ لما لم تفكر، ولو أن الأمر ليس بمنتهى الدقة، أني فقير تعودت على الاكتفاء بالقليل؟ أو أني لا احمل ما يكفي من النقود لرغيف كامل؟ إنها ذاتها الأفكار المسبقة التي يتحدثون عنها!
حسنًا، لا يمكنني أن أرمي بالاتهامات دون أن انظر إلى عيوبي… حسنًا، أعرف أنك أعطيتني فرصة أخرى ولم استغلها، ولكن أيضًا، هنا، لم تتفهمني ولم تحاول أن تضع نفسك مكاني. طلبت منك بأدب، حاولت أن تفعل ذلك رغمًا عني فمانعت بقوة، قلت لك : أنا لا آكل الشطة! أنا لا أكل الفلفل! أنا لا أحب الطعام الحار! هذا ليس ذنبي، ليس تواطؤا مني ولا هروبا من التضامن مع عذابات شعبنا، وليس لأني أريد آن آصبح أشكنازيًا، ولا تنكرًا لأصول جدّي المغربية. كل ذنبي أني ولدت في حي يتعلم فيه الأطفال الشتائم الثقيلة التي نسميها “تراحيم” قبل كلمة “بابا ماما” وقبل تعليمهم الإجابة على سؤال “كيف بتعمل البسّة؟”. وذنبي الآخر هو أني ولدت لأم مقتنعة بأن الفلفل دواء اللسان السافل والكلام البذيء. لقد عانيت سنوات الطفولة كلها من طعم الفلفل الذي تتبعه ثلاث صفعات على خدي الأيسر ثم رابعة على خدي الأيمن. إنها عُقد الطفولة يا عزيزي، ما الذي استطيع أن افعله؟
لماذا تلاحظ فقط الأمور السلبية مثل كرهي للحار وعدم قدرتي على أكل رغيف كامل؟ ماذا عن الأمور الايجابية؟ لماذا مثلا لا تنتبه لأسلوبي الخاص والمتمرس بـ”فغم” (أي الأكل بشراهة) الرغيف بوحشية عروبيّة أصيلة يمكن لأي عضو قيادي في حزب البعث أو أي قومي عروبي آخر أن يتباهى بها؟ لماذا حين طلبت منك الإكثار من “الطحينية” لأني فخور بجذور الطحينة الوطنية، وامتياز الطحينية الفلسطينية على باقي الأقطار الشقيقة، فهمتها أني لا اقدر على صلابة الفلافل، واني أريد أن أُطري الوجبة. سُحقًا.
منذ اليوم، أنا لا أسمح لك أن تختبر وطنيتي وفلسطينيتي برغيف فلافل، لن آكل الشطّة حتى لو كنت تظن أننا علينا أكلها تضامنا مع سجناء سجن “شطّة” ولنتذوّق العذاب الذي يذوقه الأخوة المناضلون في السجون، لو كان هذا فعلًا ما تريده لأغلقت دكانك في أيام الإضراب عن الطعام. كما أني لن أطلب رغيفًا كاملًا إن لم أكن قادرا على إتمامه حتى النهاية. ولا يهمني إن كان أكل الرجال على قدر أفعالها، فالأعمال بالنيّات، وليس بالفلافل، كما أن نصف رغيف فلافل لا يعني القبول بحل الدولتين ولا التراجع عن رفض قرار التقسيم. وأنا أريد أن أشرب كوكاكولا، أمريكي نعم، ولكني أكره عصير العنب، لأن لونه على اسمه، عنّابي، وأنا اكره الأشياء التي لونها على اسمها، وهذا ليس له علاقة بالأحزاب التي تحمل أعلامها اللون البرتقالي. وأنا لا آكل البندورة، ومع هذا فأنا يساري وأفضل من يهتف بالمظاهرات “لاح العلم الأحمر لاح”. وأفضّل الخيار المخلل، ولكن هذا لا يعني رفضي لخَيار المقاومة، بالعكس. وأعتذر إن أزعجتك كلمة “تشيبس” التي استعملتها بدلًا من “بطاطا مقلية” ولكن الذنب ليس ذنبي، إنها التناقضات التي يحمّلنا إياها واقع المواطنة. وأخيرًا، اسمع جيدًا: أنا أكره فريد الأطرش، فاصنع لي معروفًا واخرس هذه الراديو اللعينة! لن أسمح لك بأن تعاملني بهذا الشكل، أن تنتقص من رجولتي وكبريائي. أنا رجل والرجال قليلُ، هل سمعت؟ أنا رجل قد نفسي! أنا رجُل!
لك منّي خالص الاحترام المُتبادل
مجد كيّال
*ملاحظة: بعد كتابة هذه الرسالة ذهبت مرة أخرى الى دكان الفلافل، أنا وأحد أعز أصدقائي، طلب رغيفًا كاملًا وطلبت، مُصرًا فخورًا، نصف رغيف. نظر صديقي إلي وضحك: “شو نُص رغيف؟ شو هومو؟”
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق