تعليقٌ على قراءة
صادفت هذا الأسبوع نصين مختلفين أثارا انتباهي وأعتقد بأنه يجدر التوقف عندهم..
صادفت هذا الأسبوع نصين مختلفين أثارا انتباهي وأعتقد بأنه يجدر التوقف عندهم..
النص الأوّل في جريدة الأخبار اللبنانية للصحفي بيار أبي صعب تحت عنوان: "نادية الفاني "علمانية" في تل أبيب: لن تعودي مرفوعة الرأس إلى ساحة المعركة" يعاتب فيها الكاتب صديقته المخرجة لقرارها زيارة تل أبيب.
والآخر نص قصير جدًا كتبه الصديق العزيز العزيز هشام نفاع في حساب الفيسبوك الشخصي تعليقًا على بثّ إعلان للخدمة الوطنية الإسرائيلية في إذاعة الشمس (من الناصرة)، حيث يعاتب هشام "الزملاء" على بثّ الإعلان ويدعوهم لاتخاذ "موقف جريء" ووقفه...
الاختلاف الأساسي بين النصّين هو أن هشام نفّاع يتطرق إلى عمل مؤسسة، بينما يتطرق بيار أبي صعب إلى عمل فرد، ومع هذا فالتشابه كبير: عتاب عطوف لأصدقاء أو زملاء يكسرون الخطوط الحمراء التي تُجمع عليها القوى السياسية (كلٌ في محيطه) وسط الحفاظ والتمسك بمبدئية الموقف، والغيرة قبل كل شيء على مصلحة الطرف المتواطئ، والتشديد قولاً أو ممارسة على "النقد الحاد دون أي تجريحٍ وفي حدود اللغة اللائقة" كما يقول هشام نفّاع.
كيف نتعامل مع الخطيئة السياسية حين تنتج عن من تربطنا بهم علاقة شخصيّة؟ وكيف نتعامل، بالمقابل، حين ترتكبها شخصيات أكثر بعدًا، أو يرتكبها "المكروهين ضمنًا"... كيف نكتب حين تصبح محاكمة "الجاني" السياسي محاكمة لأنفسنا ويصبح خطابنا وسيلة للتخلص من حصّتنا في الخطأ؟ واحدة من الوسائل المتّبعة هي أن يصبح الخطأ دخيلاً زائدًا ومستجدًا (لم نكن نعرفه) على أطباع الصديق.
يعرف الكاتبان قيمة العبارة والصياغة، وأن استخدام المفردات والأسلوب له قيمة في التعبير عن الموقف، ولشكل القول دور في بلورة المقولة؛ فالمفردات إذ تنصّ الموقف المبدئي تحوّل، هنا، الهجوم إلى عتاب، والفرق شاسع.
فيما كتب هشام نفاع فالحالة تتطرق لعمل مؤسسة وليس شخص بعينه، والإشكال هنا يكمن في التعامل المُسبق مع المؤسسة على أنها مؤسسة وطنية عربي فلسطينية، المشكلة هنا في فهم مصدر شرعية وجود هذه الإذاعة.
فيما كتب هشام نفاع فالحالة تتطرق لعمل مؤسسة وليس شخص بعينه، والإشكال هنا يكمن في التعامل المُسبق مع المؤسسة على أنها مؤسسة وطنية عربي فلسطينية، المشكلة هنا في فهم مصدر شرعية وجود هذه الإذاعة.
الإجابة تكمن في النص ذاته: "آمل أن يُتخذ قرارًا جريئًا بوقف الإعلان".. ما الذي تعنيه الجرأة هنا؟ لو كانت هذه المؤسسة مؤسسة وطنية، تستمد شرعيتها وقوّتها ووجودها من داخل مجتمعها، من داخل مؤسسات مجتمعها وقيادة شعبها؛ أليس قرارها بثّ الإعلان، هو الجرأة بعينها؟ ما الذي يمكن أن يكون أكثر جرأةً من أن تتحدى سياقك؟
لكن فيما يقوله هشام حقٌ وإن كمن في باطن القول: سياق هذا المؤسسة سياق "عربيّ إسرائيلي" خاضع لكل القمع الذي تمارسه السلطات الإسرائيلية ويستمد وجوده من هذه السياق، لذا فإن قراره رفض السياق هو، بالفعل، ما يحتاج جرأة...
المشكلة ليست في تفهّم الظروف أو عدم تفهمها؛ نعم، نتفهم من يعمل في إذاعة الشمس، ولكن التفهّم لا يعني خداع النفس، وايهام الناس بأن هذه المؤسسة مؤسسة وطنيّة...
المشكلة ليست في تفهّم الظروف أو عدم تفهمها؛ نعم، نتفهم من يعمل في إذاعة الشمس، ولكن التفهّم لا يعني خداع النفس، وايهام الناس بأن هذه المؤسسة مؤسسة وطنيّة...
في حياة الفلسطينيين في الداخل تناقضات كثيرة، هذه أحدها، ويمكن تفهمها كلها، لكن المشكلة ليست في العيش تحت ثقل التناقضات، بل خداع الذات بأن هذه التناقضات هي الأمر الطبيعي والشرعي والعادي... وهذا ما يحوّل إذاعة الشمس إلى مؤسسة "وطنية" وسيحوّل غدًا تلفزيون "هلا" إلى مؤسسة وطنية أخرى نعاتبها!! إن اقترفت خطيئة سياسيّة جديدة.
أما بيار أبي صعب (الذي اعتدنا على مواقفه النارية والصادقة في قضايا التطبيع خاصةً) يمارس خدعة صياغة الموقف أيضًا فنراه يذهب إلى توظيف ليدي مكبث وبروتوس لوصف نادية الفاني (يا لملحميّة الموقف، يا لأسطورية اللحظة!)... هذه استعارة، نعرف، ولكن الاستعارات أيضًا لها أحجامها. لا أسطورة تاريخية في زيارة تافهة لمدينة مسخ تدّعي حياة ثقافية زائفة، فما الذي أتى ببروتوس إلى تل أبيب؟
يفضل بيار أن يخوض نقاشًا ثقافيًا ينطلق فيه من "روما" و"رسالة العلمانية" لكنه يتناسى بأن تل-أبيب ليست بلدًا تحتاج لرسالة نادية الفاني العلمانية، بل تحتاج بالحقيقة لجرعات استشراقٍ عقيم تشتريها من بلادنا بسمسرةٍ فرنسيّة، ونادية الفاني (التي لا أعرف عنها سوى أفلامها) تبيع وتقبض... حين يجمّل النقاش الثقافي حالة انتهازية ماديّة، تظهر أمامي "حوارات المنفيين" لبريخت؛ لا يمكننا تصديق الدوافع الحقيقية أحيانًا، لأنها حيوانيّةً أكثر مما يمكن تخيّله.
المشكلة في أن بيار أبي صعب أثبت مرارًا أنه يعرف هذه الدوافع، ويعرف أن النقاشات الثقافية التي تسطّح نقاش الفكرة وتدخل في أسلوب نشرها ومكان وناشر وظروف موضوعية، هي نقاشات لا علاقة لها بالفكرة، بل بأسلوب بيع الفكرة وشرائها، وهذا ليس الميدان الذي اعتدنا أن يخوضه صحفي له مواقف كمواقف بيار أبي صعب.
لا يمكن لنقاش المواقف أن يتحوّل من نقاش الانتهازية الحقيرة إلى نقاش في فهم الرسالة السياسية والثقافية، خاصةً وإن كان هذا التحوّل ناتج عن قرابة أو صداقة الكاتب إلى موضوع الكتابة.
لا يمكن لنقاش المواقف أن يتحوّل من نقاش الانتهازية الحقيرة إلى نقاش في فهم الرسالة السياسية والثقافية، خاصةً وإن كان هذا التحوّل ناتج عن قرابة أو صداقة الكاتب إلى موضوع الكتابة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق