"وهذا… المعلّـم أَنطَة.." قال المدير. ودوت، بالتزامن مع شدّة حرف اللام، صفعة على ظهر أنطة المنحني، ثم قبل أن أمعن النظر بأنطة، تابع: "...وهذا مكتبك، يمكنك أن تستعمل ما تريد، سأعرّفك غدًا على أعضاء الطاقم… تفضّل و... بالنجاح." فكرة تردده بنطق "بالنجاح" شغلت ذهني، فنسيت أمر أنطة حتى يوم الغد.
- "مَـ..مّـ...مـ..مَعَك و..ولعة؟." قال أنطة في يوم العمل الثاني...
- "اه تفضّل..."
- "طيب، لكـ..كان ها..هات سيجارة."
بسنّه الذهبي، ورأسه الأصلع المحفور بندبة تبدو قديمة وسترة عمال النظافة الصفراء عاكسة الضوء وتلعثمه، يصبح أنطة الاستراحة الفكاهية للعاملين الكبار في هذا المكتب الكبير، محط سخرية مجموعة من المتعلمين المختبئين وراء حواسيبهم... نكتتهم المستمرة.
"...وهذا معتوه الحارة، لا بهش ولا بنش..." قال أحد الزملاء الخبثاء الذي أتى للتعرف إلي والإدلاء ببعض النصائح والتحذيرات وتعريفي بالحبكات والمؤامرات والشخصيات المركزية في هذا المكتب الكبير.
أما أنا، بعد سنواتٍ من الثرثرة عن الطبقة العاملة، عن الكادحين و دكتاتورية البروليتاريا واستجمامي بصيف المراهقة السياسية واحلامها الحمراء، أجد نفسي وسط طاقم وحوشٍ شرسة تحارب على مكان عمل وسط الأزمات المالية، فأنجر دون وعي لأسن أنياب السخرية على لحم عامل النظافة لأحافظ شخصيتي المحبوبة المحايدة في هذا المكتب الكبير، حيث يلبسون ربطات العنق ويمنعون التدخين ويُجمعون على السخرية من أنطة.
ظهر صيفي، يوم الجمعة، عطلة أسبوعية، أقتربُ مهرولًا من محطة الباص. لم أميّزه في البداية، كان أنطة، زوجته المحجّبة وأولاده الخمسة ( أو الستة ربما). ترسم المفاجأة ابتسامة بلهاء على وجهي المعرق؛ أنطة يلبس بدلةً! حذاء أسود، سروال أسود، وقميص أبيض ربطت أزراره حتى عنقه، سانتيمترات قليلة تحت ذقنه الحليقة (لأول مرة)، وسترة سوداء طويلة فوق القميص.
صافحتُ أنطة بحرارة، شدّ على يدي تملأه فرحة ما مجبولة بالفخر ونظر إلى زوجته وأولاده مبتسمًا دون أن يقول شيء. كل ما في الأمر أني صافحته، إلا أني لم اذكر اني رأيت إنسانا سعيدًا بهذا الشكل في السنوات الأخيرة التي أذكرها، في مكان وزمان يكثر فيه العبوس فيسهل تذكرة السعداء. ابتسامة عريضة واثقة وحديث قصير لم الحظ فيه تلعثم أنطة، ثم انصرفت متابعًا طريقي...
ثوانٍ بعد انصرافي المهرول، سمعت صوت أنطة يقول لزوجته بصوت واثقًا هادئ ومرتفع بالوقت ذاته: "زَزّ... زَميلي بالشغل."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق