مُنزلات ما قبل النص:
أولاً، المبادئ المُثمنة بغير التضحية، لاغية.
ثانياً، قصص الحُب تُكتب حين تنتهي.
ثالثاً، هذا النص نهايته سعيدة.
حربٌ طاحنة. بيننا عراك كاسح. مُر إلى مُرهق. حرب شوارعٍ في غرفةٍ أصغر من غرفة كنا سنقطنها معاً في الأحلام التي كان يمكننا أن نحلم، لو أننا قِسنا إمكانية ألا نفترق أبداً. تتحول الأشياء كُلها- الحاسوب، السرير، البطّانية البيضاء، الكتب، الحائط، زجاجة الفودكا، البرد، الوسادتين، الغطاءين- عن شكلها لتصير أكثر مصيريةً وتأخذ بالأحداث دورها. كانت الأشياء حولنا تنحت فينا (فيّ على الأقل) تفاصيل معركةٍ لا اسم لها ولا هدف. لا شكل، لا طعم، لا صوت.
يُنهكنا (ينهكني على الأقل) جرف عاصف صاعق من الأسئلة، توقعات لإجابات على أسئلة نحن (أو ربما أنا) من يطرحها، ونحن من يفشل في إقناع نفسه بضرورة طرحها أصلاً؛ ألم نختر كل هذا ونعرفه؟ تلتف حول عنقنا وتخنقنا (تخنقني على الأقل) روابط التوقعات والاحتمالات ببعضها. تعتصرنا حربٌ مُشتعلة بين ذهنين على ميدان رمالٍ مُتحركة في فلكٍ تعدّى الاتجاهات: من الغريزة إلى الذاكرة (بالاتجاهين) يعرقلها المبدأ، تدفعها العاطفة، فوق العتمة، تحت الكحول، فالتجربة تصلها الحرية بالمُطلق، تحاذي التملّك، وتَنهار عند الكبرياء.
كانت حرباً مُرهقة. كان اصطناع الوجوه و«التفكير بالخطوة القادمة» يقتل كل طعم عاطفةٍ كنا نطلق نفسنا لها (وهل كنا فعلاً)؟ امتزاج بقايا العاطفة بجرف زيف عار يُعوَّض بامتزاج ثقل كثافة الفودكا وكثرتها ببقايا عصيرٍ غير طبيعي ساذج.أشرب لأتمكّن من الصمت. أشرب لئلا يخونني حصان اللسان، فأخسر.
هل كانت حرية مُطلقة أم أدلَجَة لعلاقة عابرة (وإن كانت مُدة العبور سنوات)؟ هل كنتُ فعلًا ما أدّعي؟ هل كنتُ طالباً ناجحاً في نسيان التملّك عن ظهر قلب؟ هل صِرتُ وهماً سندِباداً والبلاد قِصص حُبٍ لا تكتمل ولا تنتهي؟ هل تهزم، في هذه الغرفة، أصغر التفاصيل أكبر الاعتقادات؟ هل تكسر بحّة الصباح صراخ المبدأ الأكبر؟ هل كَبَوتُ حين رقصت لأبدية قصص الحب المُتجددة؟ وهل نثرت فضيلة الكتب القديمة على بَساطةِ أسرارنا؟ من أين هذا الفرح الموجع إذاً؟ من أي جهةٍ يأتي انطلاقي في شعور المُطلق؟ وهل حقيقي شعوري بأن، في بلاد المُطلق التي فيها أطير، يتساوى ألم الوداع بمُتعة التمسّك بالرأي؟
صرت الآن، وفقط بعد تسعة عشر عاماً من فعل التذكّر، أعرف ما يعني أن لا «تعرف طعم النوم» كان استلقاء مُرغماً لنفسٍ تُعنّف نفسها وتطالب الهرب إلى الانفجار الكبير. أغمضُ عيني فتجلدني صورُ ماضٍ فأمضي إلى حيلةٍ أخرى هروباً من استحضار الذاكرة فعلاً. أقوم، أشرب، أشغّل الموسيقى مرةً أخرى وتصدمني عشوائية تبدّل الأغاني: أغاني الحب تُخلد معركة لم تنته بعد.
أغفو لدقائق، ثم أفوق إلى يقظتي لانعدام قدرتي التفوّق على نفسي. أفقدُ قدرة التمييز بين ما يحدث بيني وبينها من كرٍ وفر وسط هذا الظلام الثمل، وبين ما يحدث بيني وبينها في أحلامي المتقطعة سريعة المرور. لا أعود أعرف ما الذي قيل وما الذي لم يُقال هذه الليلة. من الأجدر إذاً، أن لا يبتعد فكّاي عن بعضهما في اليوم التالي.
كنّا، قبل أقل من ساعةٍ واحدة، نرقصُ وننثر فرحاً (قد يكون مزيفاً، وقد يكون هو الحق) في حفلٍ صاخب جمعتنا فيه بالأساس غربتنا عن الحضور، فجمعت تفاصيل ما كان في الماضي وما يكون حتى الآن بيني وبينها؛ هذه التفاصيل غير المفهومة، غير المُلخصة (والمُخلصة؟)، غير الواضحة، غير الشفافة، غير المُركزة التي تخضّني الآن. جَمَعَها حفلٌ لأن سذاجته لم تتِح لأحد الانتباه إلى عمالقة الكائنات التي نحتناها معاً وخزّقناها فرادى (رُبما لأنها صُنعت من غيم، وهم ألفوا جوب الضباب.) كم كانت المناسبة تليق بمهمة حساب مجموع السحاب. وما يهم؟ المُهم هُناك الانبساط والضحك، حتى حين علّقت هي مُزاحاً: «أنا العاشق السيء الحظ».
حين بدّلت ملابسها، خرجتُ من الغرفة. بعدها استلقيتُ على الفرشة الصغيرة، هي على السرير. لم نقتسم السرير ولم نتشارك الأسرار. شربتُ وَحدي، هي لم تشرب. خِفتُ وحدي، من لا شيء، هي لم تخف. حين تبادلنا النظر وقالت ما قالته متابعةً لفرح الحفل (حيث كنّا زوجاً شاباً تبتسم له الأزواج متذكرةً شبابها)، هروبًا من الحقيقة (أو الزيف المُطلق) وحين دعتني لسقوط القرار على أقدام الشهوة؛ تفوّقت على أنكيدو، واختلفنا، أنا وهو، في «ارتقائه» للبشر حين بقيت أنا في ضفة الحيوان وعدّلت الملحمة. أَجفَ النبع أم ماتت الآلهة أم تفوقتُ أنا عليّ للمرة الأولى؟
لِما زارت القدسُ (حيث ولد وترعرع الكُره) حيفا (حيث الحُب)؟ لما في هذا الشتاء فقد الأخضر طبيعته بدلاً من أن تفقد الطبيعة خضرتها؟ لما لم يقم فعل التقيؤ ثمالةً (حُجّة عدم عودتها لبيتها) بمهمته التلقائية بإباحة وضع قراراتنا جانباً والهيدبى على طريق الغريزة؟ لما لم ينفّذ البرد خطته لإشعال نار الحميمية؟ ولما لا يُعلن الحجّاج بن يوسف، بدل قطع الرؤوس، قطاف أوّل الأبجدية في أول هذه الفقرة قسرًا؟ ولما لا تستمر الحرب، حتى النصر، فنقضي معالم المصاعب والشدة في أول الفقرة القادمة، وتتضح أطراف الصراع؟!
لمّا قالت هي: «تعالَ»، فاجأتُ نفسي. لمّا انطفأ الضوء انطلقت في شغفي لأنظر إلى كل ما أشاء وأتعدى نفسي وقراراتي البطولية (فما يعني أن نخسر حرباً؟) إلا أني اصطدمت بنهاية النفق الذي لا يضيء. لمّا كبرت (أو صغرت؟) وسع الغرفة وفضاء هذه الحرب، صارت الأشياء أوضح. لمّا صارت الأشياء أوضَح، أدركت أني لم أكن أعرف أي شيء عن قصة حُبٍ كانت هي كل شيء إلى أن زخرفتها مبادئ الحرية الكُبرى والتمرد على طبيعة الناس والعلاقات ورغبة خوضنا المُطلق. لمّا سمعتُ، عند الفجر، بحة صوتها (ذات البحّة القديمة) تقول، عبر الهاتف، له: «صباح الخير»، انتهى هذا النص.
مجد كيّال
*لقد تم نشر هذا النص في مجلة فلسطين الشبّاب في العدد 41، أيّار2010، وذلك بعد ان إنتهت صلاحية واقعيته.
رائع !!
ردحذفقريتها أكتر من ما بتتخيّل
ردحذفربما يكون اجمل نصوصك مجد!
ردحذف