الموت والبخيل - هيرونيموس بوس |
يقول الرجل
البشوش، وهو يجلس بين أبنائه، وأخوته وشركاء يوميّات قهوته الصباحية، بأنه يريد
موتًا متواضعًا.
يريد قبرًا
صغيرًا منخفضًا دونما تكلّفٍ، بين قبور أترابه في مدفن القرية.
يريد جنازةً
صغيرة يجتمع فيها الأصدقاء والأقارب، بدفئ الدموع وطيب الذكريات: لا خطابات
تنعيه ولا أكاليل مبتذلة...
يريد موتًا
متواضعًا
فحسب.
وكنّ بناته،
شقيقاته، زوجته وزميلاته في العمل التطوعيّ مدفوع الأجر يدمعن لفكرة أن يغيب ظل
ابتسامته عن ساحتهن المشمسة.
*
يقول الرجل
الساخط، وهو يجلس وحيدًا يشرب الكونياك صباحًا بأنه يعيش حياةً مفعمة بالأعداء من "أبناء
القحبة": لم يذكر أي قبرٍ، لم يفكّر بأي جنازة.
فكّر فقط في أن
يعيش ليقتل من يدفنون الحياة...
وكنّ النساء
يعبرن منه، به وعليه.. ولا يعبرن أبدًا إليه.
أما عبوسه فقد
كان ليلًا طويلاً
يحاصر المدينة
السلعة.
*
شاء النص أن يموت الرجلان في اليوم ذاته.
*
تتسابق المدينة
على رفع نعش الرجل البشوش، ويجتهد العابرون بهندمة البكاء: أكثر من عشرين خطابًا
تأبينيًا، ونحو خمسين إكليلا من مجمل المؤسسات التي اجتهد فيها الفقيد البشوش
(بتطوعٍ مدفوع الأجر) مدى سنوات، لكي يموت متواضعًا محبوبًا... بشوشًا.
ثم شكّلوا لجنة
لتعقد ذكرى الأربعين، وأخرى لتتحمل إنشاء نصب تذكاري عال فوق القبر أو وسط المدينة.
*
وصلت امرأة ثالثة
متأخرة، ودمعت ستّة عيون بصمتٍ يُطبق على ثلاث ابتسامات.
شرح لهنّ عبد
السلام –حفّار القبور- وهو ينظر إلى مؤخراتهن، بأن الشيخ طلب مالًا أكثر بكثير،
ليقبل بالصلاة على الزنديق قبل دفنه.
ثلاث نساء، صرن
صديقات فوق قبرٍ منخفضٍ دونما تكلّف في مقبرة المدينة المزدحمة، فيه عشيق ذهب إلى
الماضي، وقصص آتية من الأبد.
كأن مصباحًا
انطفأ في سهرةٍ انتهت باكرًا...
*
داخل تابوته، يغمز
الرجل البشوش الميّت، بفرحٍ وخُبث.
يغمض الرجل
الساخط عينيه فلا يرى ولا يعرف تفصيلاً مما يدور في جنازته.. فهو حتّى عندما يموت،
يموت بصدق.
(حيفا)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق