الحصار يملأ كل مكان، الهواء والماء والبطّيخ. الحصار في كل الأماكن، في كل الأزمنة، في الشوارع، في البيوت، كل شيء يحيط ويشدّ ليطردني إلى الخارج، ما هذا الحصار الذي يخرجك، إلى الشارع الضيّق البخيل الأسود.
الشريط يلتفّ، الشريط مثل الأفعى السوداء المرقطة عند الجوانب، يلتف بين الطاولات، الناس لا تضحك اليوم، الناس منهكة من تكرار المشهد، هذا اليوم الذي لا ينتهي، هذا اليوم الذي يتكرر فيه كل شيء، كل شيء كان، كل شيء هو الآن وكل شيء سيصفعني بعد ساعتين حين سيتكرر مرة أخرى، مرة أخرى، مرة أخرى يا إبن الشرموطة، كأس آخر يا خرا.
الويسكي يهدد بالرائحة، رائحته سطوة، هيبة خبيثة تشدّك إلى داخل الكأس لتشمّه أكثر حتى تدخل شفاهك فتلسعها الكحول. لا أحد يشرب جرعة ويسكي في أول مرة يمسك الكأس فيها، لا أحد يشرب الويسكي قبل أن يمسكها مرة واحدة على الأقل ويعيد الكأس إلى مكانه. عضّ على شفّتك العلويّة وتذوّق الحرارة تفوح من شواربك.
هذه الرائحة الكلبة ذاتها في هذا المكان الذي أعود إليه، هذا المكان الذي يعفيني من كل شيء، من الحاجة للأسباب لأستفرغ فوق كل شيء؛ رائحة السجق ورائحة لحم الخنزير والخراء البولندي الذي يطبخون بصلصته هذه الرائحة تقتل، تقتل أكثر منكِ
هل اغتسلت قبل أن نلتقي؟ هل اغتسلت اليوم؟
دعيني أشم رائحتك، رائحة لحم الخنزير، رائحة جلد الأفاعي، رائحة الشريط الذي يلتف ويلتف ويلتف. حين كنت طفلاً، كنت أفتح الكاميرا بعد أن أخرج منها الفيلم وأدس أنفي داخل الكاميرا، رائحة الكوداك هذه لا أنساها أبدًا، أغلق الغطاء الخلفي للكاميرا على أنفي وأستنشق هواء الكوداك وأغمض عينيّ كأني داخل العلبة السوداء، كانت العلبة تخنق وتضغط حتى أخرى منها إلى الصور، إلى صور العائلة، إلى صور الفرح، إلى صور الضحك، إلى صور الأغاني، إلى صور المائدة، إلى صور أحضان، إلى صور العيد، إلى صور الحب، إلى صور الكذب الرعب الطرد الوسخ الدم الوصب الصراخ الطططططراخخخ بلعنن ربككك أخو شرموطة!
الآن أنتهى الفيلم، هل تعرف الصوت الذي يصدر عن الكاميرا عندما ينتهي الفيلم؟ وززززززز تكون الكاميرا على الأرجح ترجع الفيلم إلى داخل علبته الاسطوانة.. مرة أخرى.. مرة أخرى يدور الشريط، نعم ويسكي مرةً أخرى، يلا
واحد من أحلامي كان أن يسمح لي أحدهم في أن أخطف الكاميرا أثناء التصوير وأفتحها فيحترق الشريط، تنتهي صلاحيته، لا يمكن الاستدارة مرة أخرى،ولا يمكن تحميضه ليلاحقنا مرةً أخرى.
كل شيء يحاصر
يقتل إلى حد التقيؤ
الويسكي تملأ فمك وتعاقب على ما قلته للتو، تقول لك أنه هناك ما هو أكثر ألمًا. تاخذ نفسًا بعد الجرعة وتقاوم غثيانًا يتسلق معدتك.
هل اغتسلتِ؟ أشم رائحتك رغم رائحة البصل المشوي مع اللحمة على الصاج الكهربائي. أنا أشمّك، أشمّك الآن فيختلط وجهك بالعمبة والخردل والبصل المحروق وبقايا بيرة غينس نفذ تاريخها من أشهر الآن أشمك وأرى كل ما لا أفهمه لم أعد أجد مكانًا أذهب إليه، لم أعد أجد مكانًا أذهب إليك، لم أعد حاضرًا ولا غائبا
أين أنت الآن؟ بما تفكّرين؟
بي المؤقّت؟ بي العابر؟ بي الزائل؟ بعودتي إلى مكاني الطبيعي؟
بالنمط المكتوب؟
أنا أضعف من الذهاب، وأضعف من العودة، أضعف من المواجهة لكني أضعف من الكذب
فاقد الشيء لا يعطيه
لا يعطيه؟
خذ! خذ!َ
لو أن هذا الويسكي ذكيًا بما فيه الكفاية لكان عرف وحده إلى أين يأخذني
أو كيف يأكلني
الكتابة هي العدو الوحيد الذي يمكن أن يقتلك وأنت سعيد، هي لا تقتلك بنفسها، هي تقطعك إربًا، لكنك لا تموت إلا حين تكتب عنها
هل حلمتم بأنفسكم يومًا على مائدة؟
مقطّعين إربًا؟ ستيكّات، وأضلع؟ وأفخاذ..؟ هل تخيلتم أنفسكم يومًا تسبحون في صلصة بولنديّة؟ هل تخيّلت كيف ستحس بالويسكي على جسدك عندما سيأكلكونك ويشربونها بعدك لئلا يشعروا بطعمك الرديء.
تخيّل أنك ستكون لحمًا مدخنًا، أو تخيّل أن رجلاً عظيم البنية سيطحن عظامك ويبيعهم لشبّان أغبياء يشمّونك بدلاً من الكوكايين؟
هذا مضحك، أليس كذلك؟
مضحك جدًا هذا